حديث الغريب.. أصداء الرحلة (6)

سوسن صالحة أحمد | سورية – كندا

لو تدري صديقي كم هو صعب اجترار الألم وذكر أحداثه على الروح، هنا فقط يُعادُ الزمان، عبر الشعور فقط يمكننا فعل ذلك، وهل اللحظات التي يكون فيها الشعور وليها إلا الحياة!، الحياة بكل ما مر فيها من حلو ومر، الشعور هو ميزان الوجود، وحده يحدد لك إن كنتَ حياً أو ميتاً بالمعنى البيولوجي أو تحت مُسمى إنسان، بلادة الإحساس لا تعني أكثر من موت، ولا تمنح للحياة أي إضافة، وكأنها انسحاب مستعجل من معركة الوجود، على أنها في معارك الحروب لن تعطي الراحة لصاحبها كما كانت تفعل في الأيام العادية، البلايا في الحروب تعم على الجميع، ومن لم يستنجد بإحساسه لن ينجده حتى الهروب من أماكن الحروب. ما يدفعني للسؤال، كم من البلادة يمتلك الساسة الذين يديرون الحروب ويدبرونها ويدعون لخوضها؟!
على كل حال، ها أنا أتحدث إليك وأقول.. ربما حين يخرج هذا الوجع على شكل كلمات، ربما.. ربما شئ من العافية يأتي على مخيلتي لأرسم بها آتياً يحمل الأمل بالخلاص، والرهان يبقى كم من الوجع سأستطيع رسمه بالكلمات؟!، وهل سأنجح بإرسال الصور إلى مخيلتك كما أشعرها؟!، لنحاول على الأقل، رغم أن أحد احتمالاتك وأنت برسم الإنسانية أن تفرق بين الناس في خدمة تقدمها لهم من خلال عملك، على حس انتماءاتهم وولاءاتهم ومواقفهم، حتى لو فُرِضَت عليهم كواقع الحال، محض صدفة.
من يختار في وجوده جنسه أو لونه أو جنسيته أو ديانته وطائفته وقبيلته!، والتعدات للانتماءات التي لا خيار لنا فيها كثير.
الحساب يكون على فعل واعي وليس على نمط أو طريقة تفكير أو انتماء موروث، كنتُ كل اليوم أفكر فعلاً لو أتانا مريض يقطن في قطنا وهو من مدينة حمص بالأصل، كيف نتصرف وكل العيون تراقبنا، على أنه لم يأتِ، ولن يأتِ ضمن تلك الملابسات التي ذهبت بالتعقل، لأن أقل ما سيتعرض له الإهانة والأذى المعنوي، بالطبع لن نكون الفاعلين ككادر طبي يحترم أخلاق المهنة.
كان بيننا طبيب من مدينة درعا، كل الوقت يحاول التحدث باللهجة الشامية حتى لا يتعرض أيضاً للأذى أو المساءلة عبر انتمائه بالصدفة لهذه المدينة، وأسوأ ما يمكن أن يحصل له هو طلب هويته، مرة كان مقصدنا مدينة الزبداني، وكانت في يد الجيش الحر، سياراتنا لم تكن تمر على الحواجز الأمنية ككل البلاد التي تحترم البروتوكولات الدولية رغم أن البروتوكولات تشملها كسيارة للهلال الأحمر، وقفنا يومها على عدة حواجز أمنية تمتد على طول الطريق، عادة يحتمل الوصول من دمشق إلى الزبداني ساعة أو أكثر قليلاً، لكننا يومها بقينا ثلاث ساعات ونصف حتى وصلناها، طبعا الوقت الزائد كان وقفات متتالية على الحواجز لتحقق من المهمة ومن هويات الكادر الطبي، سلمنا هوياتنا لعنصر الأمن وجلسنا ننتظر، لم يخطر لي الطبيب المرافق لنا إلا حين رأيته يقف بجانب السيارة وقد تلون وجهه وارتجف جسده، اقتربت من المسؤولة الاجتماعية يومها وكانت صديقتي نجاح مخول لأسألها مابه.. قالت: تذكري أنه من درعا وهذا وقت يضيع فيه الحابل بالنابل، حتماً هو يخشى أن يُمسك فقط لأنه من نفس المدينة.
تؤلمك إنسانيتك أكثر كلما ازداد ازدراء الإنسان، كلما ازداد خوفه، كلما قل أمنه، كلما ارتعدت أوصاله، كلما اصفر لونه، وكلما بكى حاله الذي لا ذنب له فيه.

صديقي العابر للعمر
سوسن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى