الإلحاد والانحراف النفسي والعقلي

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
ربما يأوي الإنسان بنفسه إلى ركن من الحياة مظلما، بعد أن أحاطت الظلمات بنفسه من داخلها بعضها فوق بعض، ثم يسلم نفسه أو يدفعها إلى مصير مجهول لا يبالي في أي واد تهلك، أو ينحاز إلى ثلة منحرفة نفسيا وعقديا وجسديا من شياطين الإنس والجن وهم يزينون له ما هم فيه “إلى الهدى ائتنا”..
وربما تفرغ نسائم الروح بداخل نفسه حين تطغى عليها شبه الشهوات، ويعب الجسد من كل فتنة ترد عليه جراء هذا الترف المفسد والغنى المطغي، ثم لا يجد لهذا الجسد المتهالك مأوى إلا الانتحار، أو الخروج على نمط الحياة المليل البليد.
كل هذه الانحرافات النفسية تعد من أسباب الاندفاع وراء موجة الإلحاد الطارئة في هذا العصر، مع ما يظاهرها من افتراءات أصحاب العقول العلمية وانحرافاتهم التي تأخذ بمسار العلم إلى غير صراطه الطبيعية، إلى غير خالقة، فينكر ما تثبته التجارب وما تضج به الدلائل العلمية والكونية .
لكن للانحرافات النفسية منطق آخر إن جاز أن يسمى منطقا، مندفع من داخله، لا يرى في الكون إلا ما تراه هذه النفس المظلمة المحجوبة عن كل نور في الوجود، والتي عجزت عن مجابهة الحياة أو مواجهتها ، فراحت ترمي بعجزها على غياب العدل في الكون وبالتالي غياب الإله.. فلو كان لهذا الكون إلها ما ترك الشر يستشري في جنباته، وما أملى للظلم يستحوذ على الوجود فيضيع حق الضعفاء، وما ترك هذه النفوس متخبطة في ظلماتها الداخلية والخارجية دون عون منه لها حتى تخرج ثانية إلى الحياة!!
فهذا صورة لانحراف النفس، وذاك الذي ذكرنا في المقال السابق صورة لانحراف العقل، فأما العقل فمثاله الذي أخبر القرآن عنه :” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)”[الجاثيةٍ].، وأما النفس فهي التي استحوذ عليها الشيطان فحبسها في كهف وساوسها لا تستطيع أن تخرج منه إلى الوجود الحق لترى وسائل النور ساطعة فيمن حولها ,, وهي التي قال عنها ” لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)”[الحج].
وإذا كانت فكرة الإلحاد تعني “عدم الإقرار بوجود إله واحد معبود خالق للكون “، فلم تحتاج هذه الفكرة إلى جهد لإنكار ذلك، ولم لم تكن هي الأصيلة في الكون وليست الطارئة ؟ ومن صاحب فكرة اختراع إله للكون إذا كان هذا من اختراع عقل بشري، ومن الذي دعا إليها في القدم؟ وإذا كان الملحدون قد اهتدوا إلى خطأ البشرية في العمق الزمني والتاريخي فلم يستمر هذا الخطأ الطارئ على الكون، ولا يستطيع الملحدون تخليص البشرية منه بأدلتهم التي أبرزوها (إن كانت لديهم).
وما الذي يستطيعون أن يفعلوه بهذه الفطرة الداخلية التي يناقضونها بين جنوبهم ليل نهار يحاولون وأدها فلا يستطيعون، بل تطارد أفكارهم وعقولهم في كل لحظة فلا يقر لهم قرار ولا يهنأ لهم طعام وقد انفصلوا عن وحدة الكون ونواميسه، وانخرطوا في فلك الشياطين .. فماذا لو كان ما يعتقدونه باطلا؟ فأين يذهبون؟
إذا كان هذا الطرح الذي يعتقدونه صحيحا، فكيف لا يهب دعاتهم إلى هذه الدعوة مبرزين صادحين يملأون بها جنبات الأرض ليردوا الناس إلى صوابهم، وعن ضلالهم الذي ألفوه حتى صار هو الحق، ثم لم تغلق منابر الملحدين على نفسها فلا تترك منفتحة على جميع الخلق عل بعضهم أن يقتنع بهذا الباطل الذي يدعون إليه؟ أم هل يعلم هؤلاء بطلان دعواهم مسبقا فلا يدخلون إليهم إلا مرضى النفوس والعقول ممن هم على شاكلتهم؟
يقول الإمام الشعراوي في تفسيره لسورة الأنعام (حديث: إذاعة القرآن الكريم): (إذا كان كل مخترع يسارع فيعلن عن نفسه في اختراعه، ويسجل براءة هذا الاختراع فلا يدعيه مدع، أفلا يكون لمخترع هذا الكون وخالقه بما فيه من صنعة وروعة وإبداع أن يعلن عن خلقه.. ثم لم يظهر مدع منذ خلق الكون وإلى وقته أن يقول “أنا خلقته” أو شريك فيه أو غيره.. أليس أحرى بالخلق أن يصدقوا دعوى الله ويصرفوا إليه عبادتهم ويقروا له بالألوهية والربوبية “أم على قلوب أقفالها”) ( بتصرف).
“عندما راجعت حواراتي مع الشباب الملحد في بلادنا العربية ، انتبهت إلى أن معظمهم لم يكن قد قرأ شيئا عما يثيره من مبررات عقليه لإلحاده كما تنبهت إلى أن من طرحوا شبهات حول القرآن الكريم ورسولنا الكريم لم يكونواقد طالعوا شيئا مما كتب لرد تلك الشبهات . وأدركت بوضوح أن شبابنا اتخذ قرارا بالرفض لأخطر قضية في حياة الإنسان ” الوجود الإلهي ” دون أن يبذل جهدا ” (د. عمرو الشريف .. الإلحاد مشكلة نفسيه).
وقد وصف كثير من الفلاسفة وعلماء النفس هذا الانزياح الفطري (الإلحاد) بأنه ارتداد أو انعكاس لظروف اجتماعية وأسرية ونفسيه مر بها هؤلاء الملحدون في مسيرة حياتهم ــ خاصة الطفولة ــ ثم انعكس هذا على سلوك الرفض الاجتماعي والأسري وبالتالي (الديني)، وهو نوع من التنمر على الكون الذي لم يستطع فيه الملحد التواؤم أو التناغم مع مفرداته، فرفضها جميعا بما فيها الخالق..
وإذا كانت الأزمات النفسية حتمية طبيعية تعتري كثيرا من النفوس البشرية حتى من هم في أطيب منزلة من العيش، فإن التفاعل مع هذه العوائق والتصدي لها، ومغالبتها بالصبر والعقل، وقوة النفس لا يقوم به كثير من ضعاف النفوس، فالناس حيال هذه الأزمات متفاوتون تبعا لطبقات نفوسهم، ودرجاتها العلوية والسفلية وقوة الإيمان الذي يعتصم به في المصاعب والزلازل..
وقد ذكر القرآن أمثلة من هذا كثيرة ممن ثبتوا وصابروا ورابطوا واعتصموا، وكذلك النموذج الآخر الذي تلقفته الفتن واستهوته الشياطين فصار لها تبعا من الغاوين،
“وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)”[آل عمران].
” أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)”[البقرة].
وأما الصنف الآخر فهم المعنيون في الآيات الواردة أولا في سورة الحج والجاثية.. وهم يظلون حياتهم أعباء على المجتمع وعلى أنفسهم وأهليهم، ثم هم في الآخرة الأشد خزيا وعذابا “إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى