قراءة نقدية في ديوان (ساقية الدموع ) للشاعر عبد الهادي القادوود
الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح/ ألمانيا
يسلك الشاعر المبدع عبد الهادي القادود في ديوانه هذا خطى نفسه، وهو يتسلل مرة أخرى، إلى الفضاء الشعري ذاته للُّغةٍ اللامرئية التي اعتادت أن تنزاح وتسيل، وتشف، أو تتبلور على حبات كلماتها، حاجبة المعنى خلف طبقاتٍ من الظلال ظاهرها النور وباطنها الشعور.
هو باحث دوماً عن فرصة جديدة لاقتناص المعنى من خواطر مباغتة تسر بلمحها خيال القارئ وتمنحه مكافأة القراءة . وهو عالقُ في الوقت نفسه في دوامة القلق الإبداعي الذي لا يترك صاحبه هادئ البال، ما لم يوقعه في محظور اختراق حواجز المألوف الشعري. لذا فإننا لا نستغرب منه في قصيدته (نصلي للعدالة ) أن يتهكم على ما هو متاح للشعراء في (صحن المعاني ) بقوله
بلا أجدادِنا نامت عهودٌ
وبالَ الفأرُ في صحنِ المعاني
فهل يصلح صحن بالَ فيه الفأر أن يكون طبقاً على مائدة الشعراء؟ بالطبع لا.
الشاعر عبد الهادي القادود الذي يشعر بغربة الشعراء الذين لا يحميهم رماد اللغة، والذين يخلِّفون وراءهم قصائد جريحة تئن طلباً لمن يضمد جراحها، يتراءى له الخلاص من كل ذلك بالرجوع إلى فصاحة الأجداد ، كما يقرر في قصيدته ( الأرض توأمنا) .
هي غربةُ الشُّعراءِ نركبُ سرجَها
صوبَ الحنينِ ونحتمي برمادِ
من ذا يضمِّدُ للقصائدِ جُرحَها
ويردُّني لفصاحةِ الأجدادِ
ونحن نتجول في ردهات ما بين الكلام مستشعرين البرودة العذبة التي تُحدِثها مفاجآت اللغة الشعرية حينما تتفلت من عِقالاتها، في هذا المشهد المهيب لخيل الوساوس التي تريد الانطلاق فيطَوِّقها الشاعر بالإيحاء الذي لا يمكن أن يكون طوقاً لأنه منفتح أصلاً وغير قابل للانغلاق،ثم يفككها أو يفكُّها من أطواقها داخل الشعر ، حيث لا رشاد أو لا شرط يراقب انطلاقها. عبارة “لارشاد” هذه تعني الإذن بالجنون. وهو إذْنٌ يخصُّ حركة المجاز وما يحمله من شحنات.
ما زلت ألتهمُ المسافةَ علَّني
أفضي إليكِ ببعضِ بعضِ مُرادي
طوَّقتُ بالإيحاءِ خيلَ وساوسي
وفككتُها في الشِّعرِ دونَ رَشادِ
غير أن هذه الانطلاقة الفائضة عن قدرة المكان أو الحدث الجاري في الشعر، ستدفع الشاعر في قصيدته (على جناح نهاري ) للاعتراف بصعوبة المحاولة، حينما يصبح الإفراط في فهم ضفاف الممكن هو الشرط الحقيقي الذي يصعب على الشاعر التخلص من هيمنته.
أفرطتُ في فهم الضِّفافِ كأنَّني
فرٌّ يرفرفُ في غصونِ حصارِ
من خمرةِ الخيِّامِ خِلْتُ خمائلي
وخطفتُ من خيطِ الخليلِ خياري
وخبزتُ من خوخِ الخمائلِ خلطتي
كي تنضجَ الأفكارُ في فخَّاري
.. قلبي على كفِّ الجهاتِ غمامةٌ
يمضي بها فوقَ الحقولِ قراري
لو انتبهنا إلى عدد المرات التي تكرر فيها حرف الخاء في الأبيات القليلة السابقة (خمرةِ، الخيِّامِ، خِلْتُ، خمائلي، خطفتُ ،خيطِ، الخليلِ، خياري، فخاري) وإلى وظيفة جرس هذا الحرف الحاد القوي ، لأدركنا مدى سيطرة الشاعر على لغته الشعرية، وتحكمه بحركة تدفقها، وهي تنتظم بأجراسها، لتشكل إيقاعها الداخلي ، دون أن تنحرف فيها الدلالات المعنوية عن سياقها المتماسك المسبوك.
هي في الحقيقة لعبة ذكية وجميلة يريد الشاعر ممارستها بين فترة وأخرى، ليبرهن على مهارته في قيادة اللغة.لكن هذه المهارة ليست هي الأشد إبهارا للقارئ ، وإنما تسبقها دائماً مهارة تشكيل خيال الصورة الشعرية أو(التخييل ) والذي يستفز خيال المتلقي ليجعله شريكاً في عملية الإبداع.
ومن أجمل الأمثلة على ذلك بعض أبيات قصيدة (نواقيس الحرب ) حينما يقول الشاعر:
يأتي غلامُ الليلِ من ظهرِ المدى
ويروحُ في بطنِ الصّباحِ قتيلا
لا ينتهي التَّأويلُ في فخِّ الصّدى
إنْ ساقَهُ كفُّ الجهولِ ذليلا
مجيء غلام الليل من ظهر المدى المتسع يجعل احتمالات جهة مجيئه غير محددة وغير مرتبطة بنقطة واحدة في المكان . كما أن ذهابه في الصباح قتيلا ، يؤكد أن غلام الليل من الأشباح الليلية التي لا يمكنها الصمود في الصباح . ثم ينبئك بأنه ليس عليك أن تقف عند حد معين من التأويل ، والصدى فخ ، لأنه يكرر لك الصوت مرارا ، وكلما كرر التأويل مرة تظن بأن انتهى ، غير أنه لا ينتهي دفعة واحدة ، وإنما يتلاشى تلاشيا تدريجيا ، لذا فسبب التحذير من كفّ الجهول، أنه يقع في فخ الصدى، فيسمح بإذلال المعنى كونه يوحي بانتهائه عبر محاولة واحدة من التأويل.
لقد ضبطنا الشاعر ها هنا متلبساً بفعل الإدهاش، وهو يلعب لعبة أخرى لا علاقة لها بتشكيل أجراس الكلمات وتكرار حروفها . إنه يلفلف ظلال الكلمات ويكوِر الفراغات الشفافة بينها، ثم يملؤها بما هو خفي ولا يمكن لمسه، على الرغم من أنه مؤكد الوجود.
على أنه في هذه القصيدة أيضا يخترق طبقات المعنى الذاتي والخاص، لينفذ إلى الشعور العام الذي يستنفر كل عربي ومسلم يؤلمه ما يحدث في أقطار الأرض، التي تسكنها هذه الأمة التي استحالت مع الزمن متعثرة متخبطة في طريقها.
يلوي عنانَ الحقِّ ألفُ مخنّثٍ
ملأوا ضفافَ الرَّافدينِ عويلا
من هم أولئك المخنثون ( ألف مخنث ) الذين يملؤون ضفاف الرافدين بالعويل ؟
تتساقط الأقطارُ خشية مومسٍ
دقَّت نواقيسَ الحروبِ سبيلا
ومن هي المومس التي دقت نواقيس الحرب سبيلا لها لابتلاع هذه الأرض، فتساقطت من خشيتها الأقطار من حولها ؟
في كلِّ صبحٍ ألفُ أرملةٍ وما
ملّت حماماتُ الدِّيارِ هديلا
حمامات الديار تهدل طلباً للسلام ، وفي كل صباح يزداد عدد الأرامل (ألف أرملة )، معادلة غير متكافئة الطرفين لا يحلها الشاعر إلا بهجاء العرب الهاربين أمام احتلال الغريب لأرضهم ،وما كان مراداً منهم الهروب.
عربٌ إذا حلَّ الغريبُ بأرضِهم
هربوا هروبَ الجرذِ في البيداءِ
لذا يشعر الشاعر بأنه وحيد في هذه الأرض كما في قصيدته ( فراشات الأبد):
وحدي وأرملةُ الزَّمانِ تعضُّني
والنَّاسُ حولي يضحكونَ ولا أحدْ
يروي رياضَ براءتي حين انتهى
عهدُ العفافِ وأعلنت قتلي البلدْ
وحده، غير أنه غير منهزم، وهو كشاعر لا يستطيع أن يتجاوز محنته الخاصة، ولا محنة أمته، وهو يشهد في كل صبح خذلانا جديدا وتنافسا على التطبيع والخضوع. والعدو يرتع ويتوسع والعرب يقتل قويهم ضعيفهم في كل قطر .
فكيف لا يحرض ذلك كله الشاعر على إعلان العصيان ؟ وكيف لا يتحداهم بارتكاب ما يرونه معاصي في حقهم وهو يرون أنفسهم جديرين بالطاعة!
بلا ندمٍ سأرتكبُ المعاصي
وأحرسُ حلمَ قلبي بالرَّصاصِ
إذا هاجت على يمنٍ خطوبٌ
تفكُّ الشَّامُ أسبابَ الخلاصِ
لذا فالشاعر يعرف ما هي مهمته ، وكيف يؤديها وكيف يعلم الأحجار التي هي في قبضة أبطال الانتفاضة سلاح ماضٍ ، كيف يعلمها سر وجودها . وتلك هي عملية التحريض التي يمارسها الشعر لتعود للأشياء ألوانها الحقيقية فتظهر بعد أن اختفت.
قم علِّمْ الأحجارَ سرَّ وجودِها
قم حرِّضِ الألوانَ في الأشياءِ
الشِّعرُ أوراقُ المسافرِ إن طوى
فصلُ الخريفِ خواطرَ الأضواءِ