رسالة الأسير أحمد علي حسين أبو جابر (سجن نفحة الصحراوي)

حسن عبادي | فلسطين الحتلة

مشوار على ضفاف المحور السادس

الساعة الخامسة صباحا امتطيت راحلةً تسير على أربعة دواليب متجها من مدينة عكا في الشمال إلى الجنوب، حيث أحد قبور الاحياء الواقعة وسط صحراء النقب والمعروف باسم سجن نفحة الصحراوي.

أخذت مطيتي تتهادى ببطء، كأنها تمشي الهوينى على رأس أقدامها، لا أدري هل هو كسل بها أم في محركها؟ لم يسخن بعد والكرى لم يفارق جفوني قبل شروق الشمس.

عملا بقول المثل: “عند الصباح يحمد السرى” سريت ذاك النهار على أمل الوصول إلى مبتغاي مبكراً والعودة قبل مغيب الشمس.

حين وضعتْ راحلتي دواليبها الأمامية على محور شارع “6”، أيقنت وجهتي فنفضت عنها وعني غبار الكسل والنعاس مع بزوغ الخيوط الأولى للشمس أخذ عقرب السرعة يعلو مبتعداً عن الرقم ستين الذي لازمه منذ بداية المشوار.

أبغض الرقم ستين، فهو يعني بطء المسير والتأخير وهو أيضاً يشير إلى التهام أراضي البلدات العربية، تمزيق أوصالها وتضييق الحيّز على سكانها، فهو أيضا العقد السادس الذي يعني بداية النهاية لمسيرة العمر لذلك كله أصبحت في ذاك النهار على صراع وفي سباق أنا ومركبتي مع وعلى محور الستين.

تسير الرياح بما لا تشتهي السفن، فمع وصولي إلى منطقة المثلث، وجدت شارع “6” مغلقاً بعشرات الحافلات والآليات ومئات رجال الشرطة. في ذاك الصباح احتشدت آليات الهدم والدمار فجراً على مداخل مدينة الطيرة بأزيز الشاحنات وصرير جنازير الجرافات وقعقعة شواكيش الهدم لمسح آثار جريمة العرب وتسويتها بالأرض، جريمة البناء غير المرخص لشقق تأوي أسرة أو مبنى يشكل باب رزق للعيش بكرامة، شيّد على أرض نهب جزءها الأكبر شارع “عابر اسرائيل”. اضطررت للانحراف وتغيير مساري إلى الطريق القديم، لتجاوز هذه العقبة المألوفة بمناظر الهدم أصبحت جزءاً لا يتجزء من المشهد في البلدان والقرى العربية، ففي كل يوم اثنين وخميس يتكرر المشهد كشعيرة الصوم فتمتلئ بمئات رجال الشرطة وعشرات الجرافات وشواكيش الهدم للتطبيق الانتقائي لقانون البناء الجائر. ترصد له الموارد المادية والطاقات البشرية الضخمة والهائلة، في حين تعجز الشرطة عن محاربة الجريمة في الوسط العربي في تصور فاضح وتقاعس واضح، وفي حين تعيش السلطات المحلية العربية العجز نتيجة لانتهاج السلطة المركزية سياسات التفقير في الميزانيات المقدمة إليها.

إذا تبادر إلى أذهان البعض السؤال لماذا؟ فعليه بالمثل القائل “لحم كلاب في ملوخية” ليلهو ببعضهم البعض وبالتفتيش عن لقمة العيش.

قرابة العاشرة صباحا وصلت إلى قلعة نفحة، فالمارون بمحاذاتها لا يعون أو يدركون ما تخفيه أسوارها الشاهقة خلفها حتى الداخلون إليها كزائرين لا يخرجون منها بكثير من المعرفة والدراية سوى شذرات مما تقع عليه أنظارهم التي تحجبها الدهاليز والممرات الضيقة والملتوية في الداخل.

التقيت ذاك النهار بالأسرى، موسى وحسام وأحمد. موسى مريض جسدياً ينشد العلاج وحسام مولع بالأدب وينشد الكتابات الأدبية والفكرية، أما أحمد فيقاسي أنات المجتمع العربي وينشد التخلص من العقلية القبلية والازدواجية الأخلاقية.

رغم اختلاف الأشخاص والحالات فالحال واحدة، حال أسرى أفنوا زهرات شبابهم وأعمارهم خلف القضبان، تجمعهم الآمال بالحرية وإنسانية الإنسان رغم القيد.

فبعيداً عن الرواية الوطنية الجماعية هنالك رواية الإنسان الفرد الذي يحملها كل أسير، رواية الأنا التي تنسج خيوطها الأشواق والحنين للأسرة والأحبة والأعزاء على القلب، حبكتها التوق إلى الحرية وبناء المستقبل بما بقي من سنين العمر الهارب.

في معمعان الرواية الوطنية التي تخضعها الألسن وتجترها العقول على مدار الساعة ضاعت الرواية الشخصية، وفي خضم هيجان الجماعة فُقد الإنسان الفرد، فسقط صريعاً لتدوسه أقدام النسيان، فكيف بالأسير الفرد كإنسان، وقد غيب عن مشهد الذاكرة بمجرد اعتقاله فغدا إناء أو أداة استخدام لمرة واحدة، رغم التغني به من على كل منبر ومنصة.

أن بناء الأمم والنهوض بالشعوب ليس فعلاً جماعلياً أو عونة عائلية وهبة قبلية، بل فعلا تراكميا لأفراد يحملون المشاعل لتسير على هديها الجماعات. هذه هي الحقيقة التي جذبتني وما زالت تجعلني أجوب البلاد عرضاً وطولاً لأزور كل فترة سجناً آخر والالتقاء ببعض الأسرى للتعرف عليهم كأفراد وتلمّس قصصهم الإنسانية والاطلاع على إنتاجاتهم وإبداعاتهم الأدبية والفكرية.

أنهيت زيارتي إلى سجن نفحة بعد الثالثة عصراً فخرجت من هناك معتقداً بأنني اليوم أكثر معرفة واطّلاعاً على حياة الأسير الفلسطيني، وكالعادة أعود في الزيارة التالية لأكتشف بأنني لم أعرف الكثير بعد.

في كل زيارة التقي بأسرى آخرين أطلع على قصص شخصية مختلفة جداً رغم التشابه المنسوج في ثناياها كالخيط القاني والذي يعبر عن مجموعة الأفكار والمبادئ ومنظومة القيم والأخلاق التي تمثل الأسير الإنسان الذي يحمل صفة الجد والأب والابن والأخ والزوج… إلخ. 

شغلت محرك مركبتي وأدرت مقودها إلى وجهة الشمال وما أن بدأت دواليبها بالدوران حتى انفصلت عني وانفصلت عنها مهرولة سفوح جبال نفحة، كالناقة يشدها الحنين إلى حوارها فتعرف درب الديار دون دليل. أما أنا فأخذت الأفكار تطوّح بي، فأرتطم تارة بصخرة الواقع وبجدران الأحلام تارة أخرى، فالخيال الجامع أشبه بمهر طليق العنان، لا يهاب همم الجبال ولا صعاب الثنايا، تركت خلفي أكثر الأماكن تقيداً للحرية، والآن أجوب طليقاً أرحب الأرض.

طوال مشوار العودة راودتني تساؤلات عدة، ما هي الحرية وماذا تعني وما قيمتها؟ ما الفرق بين حرية الفكر والرأي وبين حرية الحركة والجسد وأيهما أهم؟ هل تقييد الجسد يقيد الفكر أم العكس هو الصحيح؟ 

من خلال زياراتي المتتالية للأسرى أيقنت حقيقة واحدة بأن الحرية أمر معنوي ووجداني وليس مجرد أمر مادي وملموس. 

لا أدري كم مر من الوقت، ولا ما هي الأماكن التي مررت بها منذ خروجي حتى توقف هدير راحلتي أمام منزلي ساعة الغسق، بعدما أطفأت محرك المركبة مكثت حوالي عشر دقائق داخلها، وكأن عقلي يأبى التسليم بانتهاء المشوار ليأمر جسدي بالترجّل من المركبة والنزول فور وصولي دخلت غرفة المضافة فألقيت بجسدي المنهك على الكنبة بعدما ألقيت صرة مفاتيحي وحزمة أوراقي على الطاولة.

أفقت على رنين الهاتف، فنظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فكانت عقاربها تشير إلى التاسعة مساء تحاملت على أقدامي والتي بالكاد حملتني، فدلفت إلى الحمام لأزيل عني الإرهاق وبقية النعاس ثم أتناول وجبة العشاء وأستعد لتدوين مشوار هذا النهار. 

من المزور إلى الزائر حسن عبادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى