جاذبيّة العنوان و غواية المتـن في قصص الكاتبة الليبية غادة البشتي

سمير بية | ناقد تونسي

تمهيد:

إنّ القصّة القصيرة جدّا بما يميّزها من اختزال و تكثيف في الأحداث وحذف وإضمار يسعى كاتبها إلى اختيار نقطة جامعة تمثل كالقطب الذي يجذب إليه شتات القصّة و يضمّها إلى مركزه، و نعني هنا العنوان الذي هو قطعة رئيسيّة و ركن أساسيّ في بناء القصّة القصيرة جدّا له سحره الخاصّ في علاقته بالمتلقّي من جهة أولى، و بالمتن القصصيّ من جهة ثانية، فالمتلقّي للقصّة القصيرة جدّا سيجد نفسه أمام جاذبيّة العنوان بما يحمله من أسئلة في تركيبته و مضامينه، و غواية المتن القصصيّ الذي يغري اكتنازه بمتعة الاستقراء و سفر التّأويل.

1- العنوان العتبة:

إنّ العنوان يمثل كمدخل أساسيّ يدخل منه المتلقّي المتن القصصيّ ونافذة ينفذ منها هذا الأخير إلى العالم. و عليه يمكن تحليل العنوان “بنائيّا ودلاليّا كأيّ نصّ”(بنية الخطاب السردي في القصّة القصيرة ص66 ) و بما أنّنا إزاء نصّ قصصيّ قصير جدّا ميزته الاختزال و التّكثيف فقد وردت العناوين في المجموعتين”لا تقربا”و”سأكتفي بوردة منك” لفظة مفردة نكرة و من شأننا أن ننظر في هذا التّنكير و دلالاته، فالتّنكير في اللّغة العربيّة له أغراض بلاغيّة عديدة كالتّعظيم أو التّحقير أو التّهويل… و الاسم النّكرة هو يدلّ العموم، لكن الأمر هنا يتجاوز البلاغة إلى التّساؤل هل أنّ هذه العناوين النّكرة بما فيها من غموض و تكثيف و إيحاء سنجد لها تعريفا في المتن القصصيّ.؟هل ستبوح بأسرارها؟ ما الذي تخفيه وراء غموضها؟

فالعنوان في قصص الكاتبة حسب رأيي مثّل إغراء و فتنة ألقتهما في طريق القارئ  منذ الوهلة الأولى يخفي و لا يظهر يوحي و لا يفشي وبذلك يحافظ على ديناميّته وتحرّره من كلّ تحديد.

فالمسالة لم تعد محصورة في اللّغة أو البلاغة بل غدت تقنية فنّية اعتمدتها الكاتبة فعندما نقرأ عنوانا مثل “ظلم”أو “شره” أو “مغالطة” وغيرها نجد أنفسنا في حيرة بما أنّ العنوان يلمّح و لا يصرّح ، يعتّم ولا يضيء و هو بذلك يتجاوز العنوان الكلاسيكي المباشر المحيل على عالم النصّ و ربطه بالواقع خارجه. “و قد أضحى تحييد العنوان معلما بارزا في الخطاب الأدبي الحديث” فالعنوان لدى الكاتبة غادة البشتي يبدو مفتوحا أكثر على آفاق تأويليّة شتّى، و بذلك تترك للمتلقّي حريّة البحث و الاكتشاف، فهذه العتبة تلقي بها القاصّة كومضة تنير ما حولها أي ما هو خارج النصّ و تشعّ داخل المتن الحكائيّ. و عليه فالعنوان يحافط على سحره ويحتفظ بأسراره فلا يفسد على القارئ متعة السير في دروب النصّ.

 2- وظيفة العنوان في المجموعتين “لا تقربا” و”سأكتفي بوردة منك”:

إنّ العناوين التي وردت في المجموعتين اكتسبت سمة حداثيّة تميّزها عن العناوين التّقليديّة و هي التكثيف في أقصاه دون الرّبط بين النصّ و الواقع مباشرة فإذا العنوان ” يكتفي بإشارة دالّة موجزة مكثّفة لأطياف هذا العالم” وهو ما يحيلنا إلى البحث عن الدّلالة والرّمز المتمخّضان عن مفردة العنوان، وهنا نتساءل أليس العنوان في قصص غادة البشتي هو بمثابة النصّ الكلّيّ و المتن القصصيّ هو تفكيك لهذه الكليّة و توضيح لها و إضاءة لعتمتها.؟

إنّ للعنوان وظائف عديدة كما يرى العديد من الباحثين مثل الباحث حميد حمداوي الذي يرى أنّ”العنونة أولى المراحل التي يقف لديها الباحث السيميولوجي لتأمّلها واستنطاقها قصد اكتشاف بنيتها و تراكيبها ومنطوقاتها الدلاليّة و مقاصدها التداوليّة” و حسب رأيي فالعناوين في المجموعتين تشي بمدى وعي القاصّة بوظيفتها الهامّة ألا و هي التّلميح والإيحاء ممّا قد يغري المتلقي بعد إرباكه بالحفر عميقا في معانيه ودلالاته و رسائله و هذا يجعله يتّجه إلى المتن القصصيّ لاستكناه أسراره.

خلاصة القول العنوان حجر الأساس في بناء القصّة القصيرة جدّا وقد نجحت الكاتبة غادة البشتي في توظيف عنوانينها لخدمة المتن القصصيّ فجعلتها رسالة مشفّرة قد يفكّ شفرتها المتلقّي من خلال استقراء ما جاء به السرد.

غواية المتن :

إنّ القصّة القصيرة جدّا بحكم إيجازها و تكثيفها سيسعى كاتبها منذ الوهلة الأولى إلى اعتماد أقصى طاقات اللّغة اختزاليّة للتّعبير عمّا يخالجه من مشاعر و إبداء الرأي فيما يدور حوله و إنشاء رؤاه الخاصّة في علاقته بذاته والعالم، لذلك فكلّ عبارة يختارها بدقّة عالية توحي بوعيه بخصوصيّة هذا الجنس الأدبيّ و تقوده إلى هدفه الأسمى ألا وهو التّأثير في المتلقّي و إغرائه.

1- البداية دافع إلى التّخييل :

تميّزت  أقاصيص الكاتبة غادة البشتي ببدايات سريعة بدت قريبة إلى الذّروة فالكاتبة تضعنا مباشرة في الحدث دون تفصيل أو إطالة فأقصوصة ” ظلم” التي افتتحت بها مجموعتها القصصيّة ” لا تقربا ”  تقول :

ظُلْمٌ

يَقُودُهَا التَّسْلِيمُ بِعَبَثِيَّةِ مُوَاجَهَةِ الْقَدَرِ..

إِلَى غُصْنِ شَجَرَةِ  ..

تُعَلَقَ بِهِ رَقَبَتُهَا الْيَافِعَةُ

تَتَوَارَى أَنْفَاسُهَا النَّدِيَّةُ عَنْ عَتَمَةِ الْحَيَاةِ

وَيَتَدَلَّى رَأْس مَنْ فِي أَحْشَائِهَا ..

عُنْقُودَ ظُلْمٍ..!!

فالكاتبة تستهلّ قصّتها بحدث رئيسيّ” يقودها” يتولّد عليه حدثان آخران”تتوارى” و”يتدلّى” فكأنّها تقحم المتلقّي مباشرة في المتن الحكائيّ دون أن تترك له فرصة استرجاع أنفاسه، بل يسمح له بتخيّل ما سبق حدث الافتتاح و ما تلاه حتّى يقدر على مجاراة هذا النّسق السّريع الذي أُقحم فيه.

كما في أقصوصة”رغبتان” من مجموعة”سأكتفي بوردة منك”

رَغْبَتَانِ

تنامُ جَالسةً وبحضنِها طفلُهَا

تحلمُ بيدٍ تحنو على قلبِها

بينما كانت يدُ طفلِها تبحثُ عن ثديها..!

حيث يجد المتلقي نفسه في مواجهة حدث أوّليّ “تنام” الذي تلاه حدثان مهمّان هما “تحلم” و”تبحث” في ارتباط دقيق بل و عميق بالعنوان ممّا يجعل هذا المتلقي ينغمس في لعبة التّأويل و البحث عن المعنى قبل أن يتوقّف لاسترجاع أنفاسه.

2_ النّهاية والبعد الدراميّ:

إنّ المتأمّل في قصص غادة البشتي يلاحظ أنّ النّهاية على درجة كبرى من الدّراميّة فهو اختيار من الكاتبة ضاعف من فنيّة المتن السّردي فالبداية مهمّة و كذلك النّهاية  و قد استطاعت القاصّة بحنكة أن تجعل النّهايات في أقاصيصها تبلغ ذروتها اعتمادا على عنصر المفارقة و هو ما يعكس رؤية السّاردة لعالمها الواقعيّ فسعت إلى ترجمة ذلك في إنتاجها السّرديّ. فالنّهاية تتركّز فيها ذروة المتن القصصيّ، فالكاتبة كانت واعية لأهميّة النّهاية فإذا بها على درجة عالية من الحرفيّة  فالجمل السّرديّة في نهايات أقاصيص الكاتبة غادة البشتي كانت بسيطة وليست معقّدة تحمل شحنة دراميّة.

3- النّهاية تركيـبـيّا :

أ – النّهاية السّرديّة:

هناك نهايات قائمة على أفعال سرديّة مثل اقصوصة:

يَقْظَةٌ

أَحَبَّهَا حُبًّا عظيمًا على الرُّغْمِ من أَنَّهُمَا كَاَنا

من بِيْئَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ثَقَافَةً وَلُغَةً..

عَادَاتٍ.. و تقاليدَ ..

طَلَبَتْ منهُ الزَّوَاجَ ..

فَانْتَصَبَتْ  فَجْأَةً

كُلُّ هَذِهِ الاخْتِلافَاتِ ..!

فالجملة “فانتصبت فجأة كلّ هذه الاختلافات” جعلت النهاية تنفتح أكثر

ب- النّهاية الوصفيّة:

قامت بعض الأقاصيص في المجموعتين على جمل اسميّة تحمل طابعا وصفيّا جليّا مثل قصّة

مُكَافَأَةٌ

أَسْكَنَهَا كُوخَ صَفِيحٍ

قَطَعَ عَلَى أَطْفَالِهَا الْمَاءَ وَالْكَهْرَبَاءَ

شُلَّ …

فَأَمْسَى هَؤلاءِ الأَطْفَالُ عُكَّازَهُ ..!!

فالجملتان الأخيرتان في القصّتيْن (فَأَمْسَى هَؤلاءِ الأَطْفَالُ عُكَّازَهُ “كَانَ بَصَرُهَا يُعَانِقُ …عِقْدًا آخَرَ ..!!”) تحملان شحنة وصفيّة قد تشي بدائريّة البناء القصصيّ للقصّتين.

استنتاجات:

إنّ الكاتبة غادة البشتي قد نجحتْ في المجموعتيْن القصصيّتيْن في الإمساك بخيط السّرد الفنّيّ ما يدلّ على وعي وإدراك لمقتضيات بناء القصّة القصيرة جدّا فالعنوان كان أبرز مظاهر هذا التمكّن حيث استطاعت القاصّة شدّ المتلقّي بذكاء مفرط جعله يتساءل قبل البحث عن الإجابات الجاهزة، لذلك جاء المتن القصصيّ مكتنزا مكثّفا موحيا وملمّحا وليس مباشرا مصرّحا و هو ما يحسب للكاتبة في تعاملها الفذّ مع إنتاجها القصصيّ وطبعه بطابع الذّات السّاردة الخاصّ و ترجمة رؤاها و أحلامها وقد تبلور ذلك خاصّة في تنوّع البدايات و النّهايات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى