تأمّلات في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد ” للشاعر العُماني سعيد الصقلاوي (3)
د. محمد قاسم بن ناصر بو حجام | أكاديمي جزائري
الرّمز في أشعار الدّيوان
قد يتّخذ الشّاعر الرّمز سبيلا للكشف عن مشاعره، أو طريقًا للإفصاح عن مكامنه؛ إذ يجد فيه مجالًا أو فسحة لاختصار الطّريق إلى المتلقّي، الذي قد يعي بالرّمز أكثر ممّا يدرك بالأسلوب المباشر، أو الصّياغة العادية التي تكلّف الشّاعر جهدًا في تركيب جمل أو تراكيب للتّعبير عمّا يريد الإدلاء به. فالرّمز بما يحمل من دلالات وما يتميّز به من سِـمَتَي التّركيز والتّكثيف، وما يتمتّع به من حمل مضمون محدّد وخاصيّة الابتعاد عن التّعبير المباشر يكون أفيد وأبين وأجدى في الكتابة الشّعريّة الفنيّة العميقة. لذا يلجأ إليه الشّعراء بخاصّة الوجدانيّون منهم.
توجد عوامل عديدة تدفع بالفنّان لركوب متن الرّمز للإبحار به إلى شاطئ المتلقّي ليسعفه بما يريد إيصاله إليه من مشاعر وعواطف وخواطر.. منها: ” قد يكون الرّغبة في إضفاء مسحة من المتعة والإثارة في الأثر الأدبي؛ لربط المتلقّي بصاحب المشاعر والأفكار، حين يعمد فيها إلى الإيحاء والإيماء، بدل تسميتها ووصفها..” (1)
اشتمل ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد” على مجموعة من الرّموز، عبّر بها سعيد الصّقلاوي عن بعض مشاعره بخاصّة، رموز اعتمدت على اللّفظة الواحدة وأخرى أخذت طابع الرّمز الموضوعي، الذي يوظّف لمعالجة موضوع أو فكرة أو بثّ مشاعر.. نأخذ مثالا واحدا من النّوع الأوّل.. (2)
من بين الرّموز التي وظّفها الشّاعر في الإفصاح عن مشاعره رمز “النّخيل “. هو في السّياق الذي وضعه فيه يبرز مكانة الموطن الذي نشأ فيه، هو موضع يكون فيه النّخل مالئًا كفّ الشّاعر بالخيرات والكرامات هو محيط جليل أصيل مكين ركين في حياة الفرد المنتمي إليه.
عرض الصّقلاوي في قصيدته: ” مراكب الأحلام” (3) ما يشعر به نحو مرتع صباه والموطن الذي عاش فيه وسجّل ذكريات، بنت حياته، وصقلتها وميّزتها.. ركب لتلك الذّكريات يعرضها أو يستذكرها مراكب هي إلى الأحلام أوثق وأعلق؛ إذ تبدو له أنّها لا تعود بدليل قوله في ختام القصيدة:
وقد سافرتُ في نفسي
وما أمسكت
أوقاتي
رأيتُ مراكبَ الأَحلامِ
لا تَـجري إلى الآتي (4)
تعلّقه بهذه الذّكريات يكشف عنه مطلع القصيدة:
أعيديني
إلى ذاتي
ولَـمِّي كلَّ شتاتِي (5)
إذن كان من بين الرّموز التي اختارها الشّاعر لتفصح عن شدّة ارتباطه بأرض انغرست فيه حياته، فنبتت وأزهرت وأثمرت وأينعت ذكريات طيّبة كان رمزَ ” النّخلة “، التي تمثّل الأصالة والشّموخ والعطاء والحسن والجمال.. قال سعيد:
للهفتك التي
تسقِي ضلوعِي
فيضَ رَحْماتِ
لِكَفِّكِ مالئًا كفِّي
نـخيلاً من كراماتِي (6)
خاطب مراكب الأحلام وناشدها أن تعيد له هذه الذّكريات. فقد كرّر كلمة ” أعيديني وأعيدي ” خمس مرّات في القصيدة، مع ما تضمّنت من كلمات مشحونة بالوجدانيّة.. كلّ ذلك يبيّن مدى تعلّق الشّاعر بموطن صباه ومرتع شبابه…
في قصيدته: ” سفر إلى الأعلى ” (7) صوّر علاقته بالأرض التي ترعرع فيها ودرج وكبر ونشط، وبيّن طبيعتها وأركانها وزواياها ومع من كان فيها.. أخذت القصيدة منحى التّساؤلات الموجّهة إلى الأمّ التي ولدته، الأمّ التي كان يتحرّك فيها (الأرض). كان من بين ما ربط علاقته بها رمز ” النّخل ” الذي يمثّل جزءًا أساسًا في حياته.. قال متسائلاً:
لِـمْ لا نسمعُ موسيقى وغناءَ
أو ضِحْكَ براءةِ طفلٍ وثُغاءَ
أَفَلاَ نسْعَد بالنّخلِ حديثًا وَرُواءَ
ونقصُّ مشاعرَنا أشواقًا وبَهاءَ
نروِي الأَشْعارَ جَـمالاً .. حُبّا وثَناءَ
أَتُرَى نَبْضُ الوقتِ تَعطَّلْ (8)
حمل المقطع أسئلة عديدة، كلّها تبحث عن أسباب غياب مظاهر البهجة والحبور والجمال والحسن.. فكان من بين ما غاب النّخلُ الذي يحمل الرّواء والنّضارة والسّعادة. وغيرها من ألوان المتعة والرّوعة.. بذلك يعبّر الشّاعر عن أحد العناصر المحورية في حياته؛ متمثّلا في النّخلة، الشّجرة الطّيّبة بكلّ ما تحمل كلمة الطّيبة من معنى ودلالة ورمزيّة..
في قصيدة: ” يغنّي الملاك ” (9) وظّف الشّاعر رمز ” النّخيل ” ليصوّر جانبًا من الانسجام والتّجاوب اللّذين يكونان في الحياة السّويّة.. فكان يكرّر كلمة “يصغي ” ليبيّن هذا التّناغم الذي به تسير الحياة بأريحيّة وسجيّة وتلقائيّة.. فكان من بين ما يتجاوب مع ذلك النّخلُ.. فهو قد لا يحمل الرّمزيّة بأعمق دلالتها، لكنّه يكشف عن عنصر مهمّ في الطّبيعة التي تتطلّبها الحياة، كما ينقل لنا مكان النّخل في نفس سعيد الصّقلاوي.. من هذا المنطلق أو المفهوم نسمح لأنفسنا وضع التّركيبة الآتية في خانة الرّمز. قال الشّاعر في بداية القصيدة:
” يُغنّي الـملاكُ
فتصغي القُلوبُ
وتصغي الأحاسيسُ
فيهِ تطيبُ”
إلى أن يقول:
” وتُصْغِي الـمياهُ
ويُصْغِي الـنّخيلُ
وَيُصْغِي الـجمالُ الأنيسُ الـحبيبُ ” (10)
يضيف الشّاعر في هذا المقطع قيمة أخرى ممّا يفيده رمز ” النّخل ” هو: إنّ النّخيل رمز للتّفاعل الإيجابي
والتّواضع والتّجاور الذي يبني الحياة..
في قصيدة” غناء الحياة ” (11) يكتب سعيد الصّقلاوي عن حقيقة الحياة، التي هي أمل وبهجة وجمال وبهاء…، فيختار من بين ما يصوّر هذه المعاني رمز ” النّخل ” ليبيّن أنّ له دورًا في بعث الأمل والتّفاؤل في الحياة. فبما تظهر به النّخلة؛ بقامتها الشّامخة، وسعفها الممتدّ المتحرّك.. تقدّم صورة وبيانًا أنّ الحياة غناء وانتعاش، والدّليل هو في مظهر النّخلة.. أي، إنّ الشّاعر يطلب النّظرَ إلى النّخلة ومظهرها أو شكلها لمعرفة حقيقة الحياة التي تنتظر من يستغلّها:
” تُغنِّي الـحياةُ
وَسَعْفُ الـنّخيلِ
يَـمدُّ إلى الأُفقِ
ألـحانَها “
بل إنّ النّخيل عنصر يساعد الحياة أن تتمددّ في غنائها لتوصله إلى الأفاق البعيدة.. فالنّخيل كلّه خير ونفع وفائدة.. فانظر إليها أيّها الإنسان واستفد منها، وكن مثلها في طريق النّفع والخير.. قد يكون الشّاعر يقصد هذا أو يومئ إليه وقد لا يقصده، إنّ ما لا شكّ فيه هو: إنّه كان يهدف إلى التّعبير عن تعلّقه بالنّخل عنصرًا مهمًّا في الحياة، أصيلا فيها بما تتّصف به و تتمتّع وتتميّز من مميّزات جعلها ذات قيمة في نظر النّاس..؛ لذا كان الشّاعر يوجّه النّظر إليها لاتّخاذها مُستندًا ومصدرًا ومَعينًا للتّعبير عن الخصال الحميدة والصّفات القويمة والسّمات القويّة في الحياة التي يجب التّحلّي بها والتّمسّك..
أمّا في قصيدته: ” صديق ” (12) فيجول بنا الشّاعر الصّقلاوي مع همسات صديقه وتأمّلاته وتفكيره وتطلّعاته ونظره فيما يدور في الحياة، وتفلسفه مع مجرياتها..، التي قد تكون أنتجتها ظروف خاصّة، أو أفرزتها طبيعة الصّديق في تفكيره وعيشه في الحياة – حسبما يبدو من تصويره لحاله – من ذلك قوله عنه:
” صاحبي
دومًا يقولُ
مثلما
أمّي تقول:
ما حياةٌ
ليسَ فيها
من جديد
يستحيلُ
أوْ رَجاء
لا يحولُ
أو هناء لا يزولُ
وصديقي
مرجلُ التّفكيرِ
فيما سيؤولُ
يصمتُ الوقتُ
وَيـهذِي
حولنا الـمقهَى البديلُ
هكذا
يـمضي صديقي
في طريقٍ قدْ يطُولُ” (13)
قد تكون هذه الأفكار إسقاطات نفسيّة للشّاعر نفسه، أي هو الذي مرّ بهذه التّجربة، فنسبها إلى صديقه، بمفهوم: (المؤمن مرآة أخيه)، أو (قل لي من تصاحب أقل لك من أنت).. ثمّ هو بهذا الأسلوب أراد أن يحدث لفتة فنيّة بتقديم فكرته أو شعوره بواسطة الصّدَى الذي يرتدّ إليه من صديقه..كما يقال: فإنّ الرّمز في الصّور الشّعريّة مصدره اللّاشعور…(14) فرغم ما يكتنف تفكير صديقه من قتامة واهتمام ممّا يدور في الحياة.. فهو لم يفقد الأمل، ولم يستسلم لهذه الأشجان فقال عن ذلك الشّاعر، وهو ينحت من لاشعوره، أو لاشعوره هذا انفلت من رقابة الأنا فانطلق وتدفّق في هذه الصّورة الشّعريّة:
“…وصديقي
مرّةً يَـهْدَا
ومرّاتٍ يَـميلُ
عينُهُ
فيها نخيلُ
قلبُهُ
فيه هديلُ
لكنِ الأيّامُ
دومًا
حولَهُ
عَصْفٌ ثقيلُ ” (15)
الصّديق يعيش في حيرة كبيرة والأيّام تعصف بتفكيره ومشاعره.. مع كلّ ذلك لا يستسلم ولا يندحر.. فهو يحيا حياة النّخلة في الإشراق والأمل والنّضارة.. التي تبدّد القتامة، أو على الأقلّ تحمي الجسم والقلب والنّفس من الآثار النّفسيّة غير السّليمة.
لاحظت أنّ رمز ” النّخيل ” ارتبط في استعمال الشّاعر الصّقلاوي بالحياة، كأنّي به يريد أن يقول: إنّ النّخيل هي الحياة، بشموخها ورسوخها في الأرض وسموقها في السّماء، وكثرة عطائها، وقيمة جناها لحياة النّاس، وسخائها حتّى مع من يرميها بالحجر، تعطيه الثّمر (التّمر)، فمن أراد أن يفهم الحياة حقّ الفهم، ويريد أن يكون له دور في الإسهام فيها بما ينفع فلينظر إلى النّخلة وليقترب منها ليتعلّم ويستفيد…
وجدت أن : النّخلة ” لفظة محوريّة في أشعار الصّقلاوي، بمعنى أوضح وأصرح: هي تمثّل عنصرًا مهمًّا في شخصيّته وكيانه وهُويَّته. من الأمثلة على هذا التّقدير قوله:
” لامعٌ رغم بحر الدّياجي
لا يُـمَسُّ بأيِّ انطفاءِ
كالصّواري في بحر صورِ
عانقتْها مواني العلاءِ
كالنّخيل في أجفان بهلاَ
أو كدارس في الأسخياءِ
يعرقُ الـجَذْبَ وردًا وفُلاَّ
مثل مسقطٍ في الأوفياءِ
أو كسمحان دون انحناءِ
ينبتُ الـحبّ رغم العناءِ (16)
يقول عبد القادر القد: ” والنّخلة عند الوجدانيّين شجرة (رومانسيّة) إن صحّ التّعبير. يجدون فيها من المعاني المختلفة ما يلائم أحوالهم النّفسيّة وميولهم الفنّيّة، فهي أحيانًا رمز الشّموخ، وأحيانًا للسّكينة، وأخرى للتّفرّد والعزلة.. وهي توحي بكثير من الصّور الفنّيّة التي يراها الشّاعر في وجودها المادي أو فيما ينطبع في وجدان الشّاعر من خيالات وأحاسيس.” (17)
هل يمكن أن نجد في رمزيّة النّخلة عند الصّقلاوي ما يرمي إليه الرّمزيّون من الإيحاءات إلى معانٍ خاصّة، لا يريد الإفصاح عنها مباشرة، أو يريد الوصول بها إلى المتلقّي بطريقة فنيّة، تكون أجدى وأفيد. كما جاء في الأسطر الآتية: ” وقصد الرّمزيّون بالرّمز الإيحاء، أي التّعبير غير المباشر عن الجوانب المستترة الدّاخليّة في النّفس، وإضاءة عتمتها بالكشف التّعبيري الذي لا تقوى عليه اللّغة في دلالتها الوضعيّة، ولم يقصدوا به وسيلة لإخفاء الأشياء من أجل البحث عنها.
وتبدو الذّات مصدرًا للصّور الرّمزيّة، ولكنّها تختلف عن الذّات الرّومانتيكيّة، فهي ذات أكثر عمقًا وسيطرة على الأغوار النّفسيّة البعيدة التي لا يصل إليها المنطق السّطحي.
والصّورة الرّمزيّة المثلى هي التي (تستحضر غيب النّفس والوجود وهي التي توحي بيقينها المبرم وتحتّمه في النّفس دون أن تقوى النّفس على فهمه)” (18)
في تقديري، إن ّالصّقلاوي لم يبعد عن هذه الإيحاءات والإيماءات، ولم ينأَ عن هذا النّهج في تناوله رمز “النّخلة” في شعره، ولو بشكل غير معمّق ومكثّف، لكنّه ظهر مصوّرًا لذاته بطريق غير مباشرة..
ردّ العجز على الصّدر (19)
من ألوان البلاغة في الدّيوان ما يسمّى “ردّ العجز على الصّدر” (20)، فإنّ الدّيوان لم يخلُ منه.. نقدّم نماذج لهذا الاستعمال لنبيّن أنّ الشّاعر سعيد الصّقلاوي يظلّ وفيًّا لبعض الأساليب التي عرفها القدامى مع تفتّحه على الجديد منها فيما عرف في العصر الحديث.
قال الشّاعر:
(أ)” الظّلّ
خلف الحزنِ مختَبِئٌ
والحزنٌ مرآةٌ
بها ظلُّ ” (21)
(ب)” إنْ كنتَ تعرفُ ما تبدي
على سؤلٍ
فلستُ أعرفُ ما تبدي
على سؤلِ ” (22)
(ج)الصّامدونَ
أطلُّوا
من خلفِ
ألفِ جدارِ
فمن تُراهُ
مطلٌّ “
(د)” من رَحْمِ هذِي البوادي
أنّى تلفّتَ
تلقى
بيض الوجوهِ
سوادًا
فأين منها
عيونٌ
لم تكتحلْ بالسّوادِ ” (23)
الموسيقى
الموسيقى عنصر أساس في الكتابة الشّعريّة؛ بما تملكه من خصائص، تعين الفنّان على التّعبير ونقل مشاعره، وتساعد المتلقّي على التّفاعل مع الشّعر. هذه المميّزات الخاصّة توفّرها في النّظم الشّعري بالمقدار المطلوب والمنسجم والمتناغم مع ما يريد البوح به أو الإفصاح عنه.. الشّاعر هو الذي يعطي القيمة المهمّة أو الإضافيّة للعمليّة الشّعريّة. على العموم فإنّ الصّورة الموسيقيّة تنقل حالة الشّاعر الشّعوريّة.. فما نصيب الموسيقى في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد”؟
المتصفّح للدّيوان والمتأمّل فيه بقواعد الكتابة الشّعريّة وبالنّظرة النّقديّة الفاحصة النّافذة في أعماق الكلمات والتّراكيب لا يعدم إحساسًا بوجود الموسيقى المعبّرة في الدّيوان.. الاختلاف قد يكون في تقويم هذا الوجود فنّيًّا؛ تعبيرًا وتصويرًا ونقلا لمشاعر الشّاعر وخلجات قلبه، وتجاوبًا من المتلقّي مع هذه الموسيقى.. نسجّل منذ البداية أنّ الدّيوان يتوفّر على العناصر التي تكوّن الموسيقى، أعني بها الوزن والإيقاع والجرس..
أوّلا: الإيقاع
يقول النّقّاد إنّ القصيدة بنية إيقاعيّة ذات أثر ودلالة، يسهم هذا الإيقاع في تشكيل صور تقدّم للمتلقّي الحالة الشّعوريّة للفنّان. لذا يحرص الشّاعر على توفيره في شعره ليكون عمله في صميم الكتابة الشّعريّة. فالمتلقّي والنّاقد ينظران إلى العمليّة الشّعريّة بمعيارٍ، فحواه أن يأخذ الفنّان في الاعتبار الأوّل قيمة الإيقاع النّفسي الكلامي، لا صورة الوزن العروضي للبيت الشّعري. يقول عزّ الدّين إسماعيل”…ونتيجة كلّ ذلك أن صار الكلام – بالإضافة إلى عنصر التّنسيق الصّوتي المجرّد الذي تكفله التّفعيلة العروضيّة – مشتملا على خاصيّة موسيقيّة جوهريّة، هي ذلك الإيقاع النّاشئ عن تساوق الحركات والسّكنات مع الحالة الشّعوريّة لدى الشّاعر، ولم تعد موسيقى الشّعر مجرّد أصوات رنّانة تروع الأذن، بل أصبحت توقيعات نفسيّة تنفذ إلى صميم المتلقّي لتهزّ أعماقه في هدوء ورفق.” (24)
نقدّم أمثلة لهذا الإيقاع في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد”. في قصيدة: ” محبّة: (25) تستقبلنا المظاهر الآتية التي يبرز فيها الإيقاع واضحًا وصريحًا:
(1)تكرار صيغ (مُفتعِل ومُنفعِل وفَعَل..) مجتهد، محتشد، معتقد، معتمد، ملتحد، منتهى.. مندفق، منجرد، منفرد، شهد، رشد، لهف، أمل، ورد، الأبد، رصد..) مثل قول الشّاعر:
” بحبِّ الله مُحتشِدا
ماء اليقين
رضا المنّان مُندفِقا
يسقي النّفوس
بساتينا ومُنجرِدا
وأنت تدرك
أنّ الـمُنتهَى أَمَلٌ
لذا سعيتَ إليه
عامدًا رَشَدا ” (26)
(2)تكرار حرف الدّال بشكل لافت للنّظر في كثير من أسطر القصيدة. مثل:
” عامدًا رَشَدا
فصرتَ فيه
هيامَ العارفين بهِ
وواردًا لَهفا
يزداد ما وَرَدَا” (27)
(3)تكرار بعض الحروف عدّة مرّات، كحرف السّين، وهو من حروف الصّفير، مجاورُه حرفا الصّاد والزّاي. من هذه الكلمات” (فالنّفس، الوساوس، سدرتهم، ساورتهم، سعيت، بساتينا، يسقي، النّفوس، يزداد، عزم، تغزو، مزرعة، رصدا، فصرت..):
” يسقي النّفوس
بساتينا ومنجردا
…لذا سعيت إليه
عامدًا رشدا
فصرت فيه ” (28)
هذه العناصر كوّنت إيقاعات خاصّة، تجعل النّفس تألفه وتتابعه بشكل رتيب، وتتخرّج على النّغمات التي توجدها الصّيغ المكرّرة، كما تهتزّ مع الأصوات التي تنبثق من حروف تحمل صفات خاصّة كحروف الصّفير التي تنسجم مع وقع المشاعر، وتعين على توفير حظّ الانجذاب إليه من المتلقّي.. هذه الإيقاعات تكوّن الصّورة الموسيقيّة التي تنقل حال الشّاعر الشّعوريّة والنّفسيّة.. التي يكتشفها المتلقّي ويدرك حقيقتها أو طبيعتها، من خلال تملّيها.. كلّ ذلك وغيره من مظاهر الإيقاع يبعث على الطّرب والتّناغم مع كلمات النّصّ..
في قصيدة ” عشق “ (29) يقول الشّاعر:
” العاشقون
همُ الأنقى إذا بعثُوا
والصّادقون
همُ الأتقى وقد وَرِثُوا
حُبَّ الحقيقة
والإيمانُ طَهّرهُمْ
مستمسكينَ
فلا زيغٌ ولا رَفَثُ
ما هدّهُمْ شَظَفُ
أوْ هزّهُمْ تَرَفُ
وما اسْتَكَانُوا
ولا في عهدهم نَكَثُوا
قلوبُهُمْ زَهَرٌ
حُروفُهُمْ دُرَرُ
بغيرِ توحيدِهِمْ
في الكونِ ما اكْتَرَثُوا
منْ مَنْبَعِ النُّوِر قَدْ
قد عَبُّوا وما فُتِنُوا
إلاَّ بِحبّ الذي
في حبِّه لبِثُوا ”
الإيقاع في هذه القصيدة تولّد من عدّة عناصر أو مصادر:
(1)من كلمات تكرّرت بصيغ واحدة: (العاشقون، الصّادقون، مستمسكين.. الأنقى، الأتقى.. بعثوا، ورثوا، نكثوا، لبثوا، اكترثوا، رفث، شظف، ترف، درر، زهر.. ) تكرار الصّيغة الواحدة في كلمات جاءت متوالية في أسطر القصيدة، مع تتابع حركات من نوع واحد كالفتحة التي غلبت على بقية الحركات.. كلّ ذلك أوجد إيقاعات خاصّة، زيادة على الدّلالات التي أوحى بها تجاور الحروف بصفاتها ومخارجها، التي لها صلة بمشاعر الشّاعر.
(2)توازن في بعض التّراكيب، من حيث عدد الكلمات في الجمل المتجاورة ونوع الحركات.. أوجد إيقاعًا يبعث في النّفس شجنًا خاصًّا، ويترك فيها أثرًا مميّزًا: (العاشقون همُ الأنقى إذا بعثوا.. والصّادقون همُ الأتقى وقد وَرِثُوا)، (ما هدّهمْ شَظَفُ ..أوْ هزّهُمْ تَرَفُ)، (قلوبُهُمْ زَهَرُ..حُروفُهُمْ دُرَرُ). هذا التّقسيم المتوازن، أو التّرصيع داخل أسطر القصيدة أحدث إيقاعا خاصًّا ولّد نغمًا مطربًا. وهو لم يكن متكلّفًا، بل كان متناغمًا مع المشاعر التي نطقت بها الحروف المتكرّرة في التّراكيب. كالهاء والثّاء والفاء وحروف المدّ.. والحروف التي جاءت متتابعة متجاورة..
(3) الرّويّ الرّئيس في القصيدة (الثّاء)، الذي يترك وقعا خاصًّا في الأذن بتكراره..
على العموم كوّن الشّاعر أجزاء جمله في القصيدة من تفعيلات وأفعال وأوزان متنوّعة لبحور مختلفة.. هذا التّنوّع في مصادر الإيقاع في هذه القصيدة جمّلها شكلاً ومضمونًا. وقد جاء مستجيبًا للجانب الوجداني في التّعبير والتّصوير.. فإنّ الحديث كان عن العشق والحبّ، اللذّين يكون منبعهما الإيمان والتّوحيد والوفاء بالعهد، والاستمساك بالحقيقة، والابتعاد عن الزّيغ والرّفث.. وفي كلّ هذا تتجلّى التّقوى التي تسكن القلب، الذي هو كلّه زَهَرٌ بهذه الصّفات.. فالوجدانيّة برزت واضحة وقويّة بهذا الإيقاع الرّائع.
في قصيدة ” قلب ” (30) نلتقي مع نوع آخر من الإيقاع متولّدًا من الهاء السّاكنة رويًّا لها، قبلها ألف ممدودة، مع ابتداء كلّ سطر بفعل أمر.. فمن اجتماع ذلك والرّتابة التي أوجدها التّكرار حصل الإيقاع:
زَهِّرْ جمالاً بالسّلامِ
وبالحياهْ
انثُرْ طُيوبَ الحبّ
في كلّ اتّجاهْ
واشْربْ مياه النّور
من أحلَى صفاهْ
حلِّقْ
مع الأمَل الـمُجنّح في سَـماهْ
واشرِقْ
بهاءً في العيونِ وفي الشِّفَاهْ
واشْدُو (31)
الـمَحبّة في الزّمان لِـمُنتهَاهْ
تضافرت عدّة عناصر لتوليد إيقاع مميّز في القصيدة.. تكرار الهاء السّاكنة رويًّا لها ثمّ تكرارها داخل بعض الأسطر، هذه الهاء (الرّويّ) سُبِقَت بحرف مدّ، ليعطي هذا الـمدُّ الفرصة للمشاعر لتتمدّدَ وتمتدّ خارج قلب الشّاعر، وتنتقل إلى المتلقّي ليتفاعل مع وجدانه الشّاعر..
ما وفّر الإيقاع أيضًا في القصيدة ورود أفعال أمر في بداية كل مقطع على وزن واحد أو صيغة واحدة: (افْعَل) (زهّر، انثر، واشْرب، حلِّقْ، واشرق، واشدُ). كلّ هذه الأفعال تدعو إلى الأمل والضّياء والإزهار والإشراق والغناء والعذوبة…تشترك في القيام بذلك حواس وأعضاء مختلفة.. ما يجعل الجسم والنّفس تتفاعلان وجدانيًّا لتعيش الحياة معًا بهناء وسعادة وطمأنينة وراحة بال.
في قصيدة: ” هوى أخضر ” (32) نلتقي مع تركيبات متساوية في عدد كلماتها وحركاتها ونبراتها، أعان هذا التّساوي على إحداث إيقاعات جميلة معبّرة. من أمثلة ذلك قول الشّاعر:
” وغنائي وما يطرب
وابتهاجي وما يوهب
يا زماني الذي أشتهي
وسمائي التي أنصب
ويقيني الذي أنخبُ
ورجائي الذي أُطنبُ “.
توفّرت قصائد الدّيوان على نماذج عديدة من هذا الإيقاع المتولّد من التّقسيم أو التّوازي بين بعض التّراكيب التي كوّنت نسيجَها، من أمثلة ذلك أيضًا قول الشّاعر:
” فغنِّ
فإِنَّ الغناءَ طبيبُ
وغنِّ
فإِنَّ الغناء حبيبُ
فتحنُو النّفوسُ
ويحلُو الوجودُ
وتَهنا اللّيالي
ويخبو النّحيبُ ” (33)
إنّ الصّورة الموسيقيّة بإيقاعاتها المتنوّعة تعمل على نقل حالة الشّاعر الشّعوريّة إلى المتلقّي.. والشّاعر المعاصر بالذّات يحرص على ذلك شديد الحرص، وقد يصطدم ببعض العقبات للتّكيّف في محاولاته مع المألوف في الكتابة الشّعريّة الكلاسيكيّة والتّجارب الجديدة رغبة منه أن: ” يجعل القصيدة بنية إيقاعيّة ذات أثر ودلالة دون أن يلغي الوزن المألوف والقافية. وقد كان الحلّ الوحيد لهذا الإشكال هو تحطيم الوحدة الموسيقيّة (العروضيّة) للبيت، تلك الوحدة التي كانت تفرض على النّفس حركة في اتّجاه محدّد معيّن، لم تكن في أغلب الأحيان هي الحركة الأصيلة التي تموج بها النّفس. وقد نتج عن ذلك أن صار الشّاعر يتحرّك نفسيًّا وموسيقيًّا وَفق مدى الحركة التي تموج بها نفسه. وقد تكون حركة سريعة ما تلبث أن تنتهي، وعندئذ ينتهي الكلام أو ينتهي السّطر. وقد تكون ذبذبة بطيئة هيّنة متماوجة وممتدّة، وعندئذ يمتدّ الكلام أو يمتدّ السّطر بها إلى غايتها. وفي كلتا الحالين ما يزال الكلام يحمل الخاصّة المميّزة لتشكيل اللّغة تشكيلا شعريًّا، وأعني بذلك خاصّة الوزن. فالسّطر الشّعري – سواء طال أم قصر – ما زال خاضعا للتّنسيق الجزئي للحركات والسّكنات، المتمثّل في التّفعيلة. أمّا عدد التّفعيلات في كلّ سطر فغير خاضع لنظام ثابت.” (34)
……
المراجع والهوامش:
(1)محمد ناصر بوحجام، أثر القرآن في الشّعر الجزائري الحديث (1925 – 1976م)،، ج2، ط1، المطبعة العربيّة، غرداية، الجزائر، 1992م، ص: 269.
(2)الرّمز الموضوعي لم يكن له أثر واضح في قصائد الدّيوان..
(3)ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 11 – 23. خاطب الشّاعر في القصيدة أمّه، ويعني بها معلمّته الأولى سليمة بنت سيف بن محمد المخينية، معلّمة القرآن.. ينظر الدّيوان ، ص: 8، هامش : 1.
(4) المصدر السّابق، ص: 23.
(5)المصدر السّابق ص: 11.
(6)المصدر السّابق ، ص: 19.
(7) المصدر السّابق ، ص: 25 – 30.
(8)المصدر السّابق، ص: 28.
(9)المصدر السّابق، ص: 71 –
(10)المصدر السّابق، ص: 71، 72.
(11) المصدر السّابق ، ص: 85، 86.
(12) المصدر السّابق، ص: 103 – 108.
(13)المصدر السّابق ، ص: 103 – 105.
(14)التّفسير النّفسي للأدب، ص: 74.
(15) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 107، 108.
(16)سعيد الصقلاوي، نشيد الماء، مطابع النّهضة، مسقط، سلطنة عُمان، 2004م ص: 90.
(17)الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، ص: 483.
(18) الصّورة الشّعريّة في النّقد العربي الحديث، ص: 46، 47.
(19) ينظر إيليا حاوي، الرّمزيّة والسّريالية في الشّعر الغربي والعربي، بيروت، 1980م، ص: 116.
(20)ذكرنا هذا اللّون من ألوان البلاغة في هذه الدّراسة وركّزنا عليه؛ لنقدّمه نموذجًا عن نتنوّع أساليب الشّاعر سعيد الصّقلاوي في الكتابة بالأنماط الحديثة والكلاسيكيّة.. وقد عرضنا بعض أوجه البلاغة في مباحث الدّراسة.، التي اعتمدها الشّاعر في كتابته وبنى عليها صوره ولغته ورموزه، كاللاستعارة والتّشبيه والجناس وغيرها..
(21)هو في النّثر أن يجعل أحد اللّفظين المكرّرين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أوّل الفقرة والآخر في آخرها. نحو قوله تعالى: … وتخشى النّاس والله أحقُّ أن تخشاه… (الأحزاب/ 37)
(22) وفي النّظم أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأوّل أو صدر الثّاني” ينظر جلال الدّين القزويني الخطيب، التّلخيص في علوم البلاغة، دار الكتاب العربي، بيروت، (د.ت)، ص: 293.
(23)ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 153.
(24) المصدر السّابق، ص: 178.
(25)المصدر السّابق، ص: 38، 39.
(26)التّفسير النّفسي للأدب، ص: 62.
(27)ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 59 – 62.
(28)المصدر السّابق، ص: 60.
(29) المصدر السّابق، ص: 60، 61.
(30) المصدر السّابق، ص: 163، 164.
(31)في الكلمة خطآ نحوي، المفروض أن تكتب (اشدُ) من دون واو، فهي فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة.
(32) المصدر السّابق، ص: 149 – 151..
(33)المصدر السّابق، ، ص: 74، 75.
(34) التّفسير النّفسي للأب، ص: 61، 62.