حديث الغريب.. أصداء الرحلة (7)

سوسن صالحة أحمد | سورية – كندا

لعلك تدرك الآن بعضاً من الحال، كل هذا في أوائل الأحداث، اعذرني صديقي فأنا لا أحفظ التواريخ، إنما أروي لك كل ذلك تحت حالة تذكر للحدث، أحاول جاهدة أن أتذكر التاريخ بالضبط، أفشل دوما ولا أذكر التواريخ، وإن ذكرتها سيكون ذلك فقط بوقتها التقريبي، وإن حصل مرة وذكرت التاريخ تماما فسيكون ذلك لشدة أهميتها حتى علقت في ذاكرتي، هذا لا يعني أن الأحداث التي لا أذكر تاريخها غير مهمة، بل حتماً مهمة بقدر ما تركت من نُدَبٍ في شعوري، وبقدر ما آذت مشاعري، هكذا ذاكرة الإنسان مجبولة على تذكر الألم، وما التاريخ إلا أوقات تمر نذكر مميزها وننسى ما تشابه، إلا ما تشابه حد الإفراط، كهذه الحال التي تعيشها بلدي منذ عشر سنوات وزادت، نحن لا ننسى ما استغرق وجودا يساوي عمرا، الشباب الذين كانوا أصلا في التجنيد ضمن الخدمة الإلزامية، أقلهم بقي ثمانية سنين أو تسعة، زهرة العمر راحت، من عاد للحياة الطبيعية منهم ولم تأكله الحرب، كيف يتسنى له أن يكمل مشوار بناء حياته؟!، سنوات القوة والقدرة وفورة الشباب والطموح قتلتها الحرب وابتلعها وهم الانتصار، الحروب يقررها الساسة ويموت من أجلها الشعب، للموت أشكال عديدة، أحدها ضياع العمر بهذا الشكل، ويرفده الحالة النفسية التي خرج بها معظم الذين تسرحوا من الجيش بعد هذه المدة، لا بد وأن من يعود منهم يحتاج لفترة أخرى تستغرق مقدار عافية قد تتأخر لأجل ان يعودوا أناساً طبيعيين، الحروب تخرجنا من طبيعتنا، كما يخرجنا منها كل فعل لا يحاكي إنساننا، وهل في القتل مهما كانت مبرراته إنسانية؟!، وهل في مشاهد الدم إلا ويلات يحملها القلب، جراحا كلما أتى ذكر الموت انفتحت ونزفت ألمها وألم أمومة أنجبت للحياة فقارع الموت ضناها.
ما زلت أذكرها كأنها أمامي الآن، بصمتها وصراخها، بدمعها وشحوب أساريرها، بجفلتها، بخفة ملامحها وقسوتها في آن واحد، بتشتيت انتباهها عن حضور لم يكن بخاطرها سبب حضوره، قبل أيام مات ابنها البكر وقد كان جنديا في الجيش النظامي في تفجير الحاجز الذي كان عنصراً في مجموعته، واليوم الذي أتحدث عنه، أتاها خبر موت ابنها الثاني وقد كان قد التحق بالجيش الحر في اشتباك مع الجيش النظامي.
الكلمات القليلة التي كانت تتفوه بها كلما استدركت الحال في استفاقة لها:” ليه يا ربي ليه”؟!.
هكذا يا صديقي الحرب فرقتنا، والانتماءات التي لا معنى لها سوى التقوي بما لا قوة فيه ولا منه، هكذا نجرح الأمومة في خلقها للحياة، هكذا ننكر الرحم فتفارقنا الرحمة ويقطن فينا الأسى، هكذا نربي الموت فينا ونقتل الحياة.

صديقي العابر للعمر

سوسن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى