ذكر البطّ

بقلم : محمد فيض خالد

لا تنقطع عني أحلام اليقظة، حتى حين أهجع لفراشي بعد انقضاء يومي الحافلَ بالكدّ والكدحِ، تمتد يد على غيرِ ترتيبٍ؛ فتُدير مُؤشِّر اللّمبة ، تأخذ شعلتها تتراقص في ضعفٍ وذبول، وكأنّها تلفظ آخر أنفاسها، تُشرِق ساعتئذٍ الهواجس في رأسي، كما يُشّرِق النّجم المُنير في غياهبِ اللّيلِ.

تلوحُ عن بُعدٍ معالم البرّ الغربي للترعةِ الكبيرة، وضحكات الرِّفاق الذين تعلّقت أيديهم بجذورِ شجرةِ الصّفصاف العتيقة، وأرجلهم تضرب وجه الماء ، يُغالبِهم الشّوق، وأعينهم يغرقها الأفق الأزرق المتماوج في فضول.

وبينَ أمنياتهم، وأيديهم المتشبّثة في رهبةٍ بالبرِّ، تتباعد المسافات، فيعودوا ترهقهم ذلّة ويشملهم قنوط، راضين بهذا القدر، حتى يحين الوقت المعلوم .

توقفت طويلا ارقب غابات البوص، تتراقص في زهوٍ وتحدي، ترميني بنظراتها السّاخرة ، استشعر رجفة الخوف والخجل يهزّني، تبدأ دقات قلبي تتصاعد، بصوتٍ فيه قسوةِ الموتور، وحزن المكلوم. 

اجلس إلى جذورِ الصّفصافة وحالي فيه من الهوان والضّعة، ألوك الصّبرَ اعنِّف نفسي المتوجسة.

وكلّما ارتعش النّهار، وجنحت الشّمس ناحيةَ الغروبِ ، تمسح أشعتها كآبة البيوت الصّامتة ، كلّما صارعتني أحزاني .

لم يكن ضمن الرِّفاقِ من يشعر كآبتي، أو يُلقي لطموحي بالا، كُلّ ما يعنيهم التعلّق بجذورِ الصّفصافة، وركض الماء في فوضى، تزيح عن أجسادهم وهج الجو ، وفحيح اللّهب .

كان هذا حالي ، حتى شاء القدر أن يرسل من يأخذ بيدي، ويدفعني لمقارعةِ الخطوب، كانَ قرص الشّمس يوشك أن يبتلعه الأفق، عندما سألتني عجوز زائغة البصر مرتاعة الأوصال في تحنّنٍ : هل تستطيع السّباحة للبرّ الغربي ؟

تهدّج صوتي في حسرةٍ ، بعد أن بدت على وجهي صُفرة الموت، اجبتها في التياعٍ، وبنظرةٍ تفيض منها العَبرات: لا ياخالة، ولكن ماذا يعنيك من البرِّ الغربي؟

تأوهات في كمدٍ، وأشارت بيدها للماءِ، وعينها مُعلّقة، قالت والحزن يتحشّرج بين ضلوعها : ذكر البطّ، لا يعود إلى البيتِ إلا لِماما، اخشى عليه ، صدقني لا نستطيع كبحَ جماح تمرده.

نظرت في استحياءٍ، فرأيته يتلهى في سعادتهِ هانئا ، يضرب بجناحيهِ الماء مُتغطرسا ، يمدّ رقبتهِ في دلالٍ ، والمرأة في صمتٍ باك ، تذيبها حسراتها.

تراقصت حبات العرق فوق حاجبيّ ، بعد أن تمدّد الخجل فغطّى وجهي المُدرج بحمرتهِ، انصرفت من فوري، تتراقص الأشباحُ في تحدي من أمامي، وصوت قادم من أعماقي يستهزئ بي مُوبّخا: اعجزت أن تكون مثل هذا الطائر الصّغير ، ماذا ينقصك..؟!

عدت للبيتِ تأكل رأسي الأفكار، كنت قد اتخذت قرارا لا رجعة فيهِ..

ظللت اتقلّب فوق حصيري الرّطب كالمحمومِ ، وما إن بدأ نور الصّبح الفضي ينبثق من فضاءهِ ، حتى اتخذت وجهتي ناحية التّرعة، انتزعت ملابسي، مددت رجلي اتحسّس الماء، انخلع قلبي وكأني أراه لأول مرةٍ ، كانت شمس النّهار فاترة لم تقوّ بعد، حين اندفعت بعزمٍ اشقّ صفحة ماء التّرعة في نشوةٍ واغتباط، تماسكت وبدأت ارفس بقدمي واضرب بيدي الماء، زاد َ يقيني وبدأت اشعر وكأنّ الدنيا قد خلت من أهلها ، فلم يعد فيها إلايّ ، زادت حركتي كانت وجهتي  معروفة، البّر الغربي ، وبعد طول  معاناة ٍ وصلت هناك، انبطحت فوق الطّينِ التقط أنفاسي المتسارعة، اعتليت المكان، وبدأت اشيّع الشّرق بعينٍ كساها التحدي والنصر، وبعد هنيةٍ عادت لي الثقة، فكان لزاما الرّحيل، قفزت إلى  الماءِ، وعدت أدراجي أكثر حماسا ..

ومنذ ذاك الصّباح، وأصبح لذكر البطّ منافسا جديدا، لا يعرف الخوف والوهن ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى