الطبلية.. طعام بمذاق الحب

د. محمود رمضان | أكاديمي مصري

مع أنها سيدة أعمال من طراز رفيع، وتجاوزت الخمسين عاماً من عمرها، إلا أنها تبدو في ريعان شبابها، تحدثنا معاً بعد فترة من الانشغال في الغربة والأعمال والسفر، لم نلتق فيها مدة العشرين عاماً الماضية، وكنت في شوق أن نتحدث عن ذكريات قريتنا واللمة الحلوة والخير والبركة والبساطة، قلت مازحاً الغداء على الطبلية،وجاء الرد في سرد منمق في كلمات بمذاق المودة والذكريات التي تزينها نبضات القلوب الطيبة في همس وود، قالت:
كنا نحن جيل ستينيات القرن الماضي نعيش في توهج المشاعر والألفة والمودة والحب، سواء في الريف أو المدن، كانت أمي وإخوتي ينتظرون عودة أبي من عمله في الثالثة عصراً، ونكون عدنا من مدارسنا وراجعنا دروسنا، ثم نجلس معاً إلى الطبلية، وتضع أمي الطعام عليها، وبعد أن نقول بسم الله نبدأ تناول غداءنا معاً.


يتخلل الغداء حكايات كل منا عما حدث له خلال اليوم، ومن خلال حديث أبي تعلمنا الأصول وكيفية التصرف السليم في مختلف المواقف، وتعلمنا قيم الكرم والشهامة ونبل الأخلاق وحسن المشورة، ولم يكن منا أحد يأكل بمفرده مثلما يحدث الآن، ولذا ظهر المثل القائل: (أنا اتربيت على طبيلية أبويا).
وعندما كان أبي يسافر في مأمورية عمل كانت أمي تصر على أن تجمعنا معاً حول الطبلية في ذات موعد الغداء، وتفعل ما يفعله أبي، ويحكم كل منا ما حدث له خلال يومه.
الطبلية هي سر ترابط الأسرة المصرية، منذ مئات السنين، ومع أنني صرت زوجة ثم جدة، وفي بيتي أحدث سفرة نستخدمها في الولائم الرسمية، إلا أنني لا أتناول طعامي مع زوجي وأبنائي وبناتي إلا على الطبلية، وهم يحبون ذلك جداً، حتى زوجي يعشق الجلوس إلى الطبلية ونتناول الغداء معاً، في مودة وحب وألفة، وأيضاً يحكي كل منا ما حدث له خلال يومه، وأقسم لك أن طعام الطبلية أشهى وألذ كثيراً من طعام السفرة، مع أنه طعام واحد.
وأشهى إفطار في رمضان حينما نعود جميعاً من أعمالنا ويلتئم شمل الأسرة حول الطبلية ونتناول جميعا إفطارنا، ولأن لشهر رمضان بهجة خاصة وتكثر فيع (العزومات)، إلا أننا جميعا لا نشتهي طعام عزومات الفنادق الراقية، سواء الإفطار أو السحور، وبهجتنا الحقيقية هي التجمع حول الطبلية.
وفي أيام الإجازات نحرص جميعاً على تناول وجباتنا الثلاث حول الطبلية، نجلس على الأرض متجاورين في دفء وحميمية وحب، لدرجة أن سيدات أعمال مثلي يوجهن الدعوة لأنفسهن لتناول العشاء عندي ويشترطن جلوسهن معا حول الطبلية، لتستعدن ذكرياتهن الجميلة التي مررن بها خلال طفولتهن المبكرة.
وكسيدة أعمال افتتحت مؤخراً مطعما راقياً بدولة خليجية وأسميته (الطبلية)، وليس فيه سفرة واحدة، بل كل طبلية متوسطة تتسع لأربعة أفراد والكبيرة لستة أو ثمانية أفراد، والمفاجأة المدهشة التي لم أتوقعها كانت في زبائن المطعم، منهم رجال أعمال وسيدات المجتمع وكثير من المسؤولين والأجانب بالطبع عدد كبير من المصريين العاملين هناك في أرقى المهن، ولاحظت إقبالهم على الطعام بشراهة وهم يجلسون حول الطبلية.
زوجي كان صديقاً مقرباً من صاحب الفضيلة الشيخ الفاضل في بلدنا، رحمه الله، ودعا زوجي فضيلته على الغداء في أرقى فنادق القاهرة، إلا أن فضيلة الشيخ أصر على دعوة زوجي في مضيفته بالقاهرة التاريخية، ودخل زوجي مع فصيلة الشيخ المضيفة، وهي مفتوحة للجميع، يجلس الجميع فوق حصير نظيف وبها عدد كبير من الطبليات، ونفس الطعام يقدم للجميع، وفرح زوجي جدا بهذه الدعوة ومازح فضيلة الشيخ قائلا: أنا معزوم هنا كل يوم، وسر الشيخ أيما سرور بحديث زوجي.
حتى مع ظهور الطبلية المعدنية والأخرى البلاستيك، إلا أن الطبلية الخشبية هي سيدتهن، وهي الموجود منها أربعة في بيتي.
أما الآن فقد تخلصت ملايين الأسر من الطبلية، وأصبحت السفرة لها غرفة خاصة بالمنزل، أما أنا فـ(ع الأصل دور)، ومازلت أعشق الطبلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى