أصالة

سمير الجندي | فلسطين

إئتني الكأس واخلع رداء الرياء. واترك المحراب للشيخ المنافق. إني ماض في متاهتك ليس لي دليل إلى أنفاسك. لا أريد العيش للعيش فقط. الطباع الخشنة لا تلائمني مثلما لا يلائمني العيش في هذه القفار التي تسمي نفسها مدينة… الناس مشوشون هنا ومدركون إدراكا تاما أنهم مشمئزون من ملامح الرجال ذوي النظرات البشعة… الصراصير وحدها التي تجيد التكيف في هكذا ظروف. فالمستوى العالي الذي رسمته لنفسي لا يتلاءم مع ملامح الاستقلال الذاتي في هذا الطقس الذي يسلب منا الذكاء.

والأسوأ أنني اعتقدت أن علي أن أبدو وضيعا حين النظر إليهم. لكنني لا أكره نفسي ولا أغض بصري حين أقابل أحدهم أحيانا. فأنا أحب أن اظهر كالأخرين ولكني لا أتفق مع قواعدهم وعاداتهم. فقد كنت أقرّ أمام نفسي أنّي أكثر منهم ذكاء وأكثر منهم عزة. وأكثرهم امتيازا عند الحق. الصراصير وحدها التي تظهر شجاعتها ولا تتجمد ولا ترتجف عندما تشعر بالخطر.. وأنا ألوم نفسي حين أغرق بالخيال. فربما أنا غير راض عن حياة الرخاء. لم أصادق أحدا منهم.

فلا يوجد قاسم مشترك واحد بيني وبينهم. أنا ضجر أحيانا وأغوص في انفعالاتي فقد أصبحت سريع التأثر. القراءة وحدها التي تدفعني نحو النقاء. وعدم الإستسلام للنميمة بيني وبين نفسي. ولذلك فإنني قلّما أشعر بالخجل حين أزور بعض الحانات.

أردت أن أنغمس بالتجارب. ربما يكون عندي زخم الإحساس والصورة والكلمة والإيقاع. لم أكن جبانا في صغري. ولن أكون جبانا. بل أتمنى أن أكون مثل “روبرت جوردن” في “لمن تقرع الأجراس” أشعر بمعنى الإنتماء الحقيقي لفكرة انتزعتها من سيرة قضية وشعب. الإنتماء وحده الذي يسير بنا نحو الشمس لنعانق زرقة السماء.

هذا التحدي ولد معي في أزقة الحارة. كنت أتمشى في الأيام المشمسة وأميل يمينا ويسارا أتبع الفيء. حين تلوح الشمس بحرارة شريرة. كنت أشعر أن شيئا خفيا يدفعني إلى سور المدينة. أرقب من فوقه حركة المارة الذين يفسحون الطريق يمينا أو يسارا لجنود مدججين بالحقد. هم وحدهم لا يحيدون عن الطريق… كانوا يسيرون في خط مستقيم… لاح لي خاطر عملي بطريقة تجعلني أبعثر خطهم المستقيم. فابتسمت اخاطري. كنت في الثالثة عشرة من عمري. ولا يردعني عن المحاولة أيّ رادع.

خلعت سترتي. وأحضرت قارورة أسكنت فيها كل انتمائي. وأشعلتها، ثم بلمح البصر فرقت خطهم المستقيم. عقدت العزم ولم تخني شجاعتي. وانطلقت عائدا بعد أن انتهى الأمر نهاية سارة لي.. ومنذ ذلك الحين قررت أن أسير في خط مستقيم، ولن أحيد عن طريقي يمينا أو يسارا، ولن أفسح لهم بل كانوا هم من يفسحون لي الطريق… أنا لست حالما أو منطويا على نفسي. بل أنا مؤمن بأن نهاية الطريق قريبة.

كل ما أعرفه أنّي قانع بفكرتي. ربما أحلامي ممزوجة بالألم. لكني أحب إيماني. رجل واحد جاهز تماما ويجب أن يكون جاهزا سيكلل الوطن بالغار. على أن لا يعمل على الحل الوسط. وأن لا يغرق في القذارة.

ولا يدفع القوم الى حالة من الكآبة. ولا يبعثرهم يمينا ويسارا. الصراصير تتكيف مع حالات الطقس المختلفة… تعيش بالنار وتعيش في الثلج والصقيع ونسميها قذارة… لم لا نسميها الكائنات الذكية الحية التي تمتاز بالعزيمة والإرادة وليس فيها خاصية واحدة من خصائص البشر. فكم مخلوق عظيم انقرض! لكنها وحدها الصراصير حافظت على وجودها. هي الكائنات النبيلة. الأصيلة لمن يبحث عن والأصالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى