هكذا نحن

سمير الجندي | فلسطين

كانت الحانة الأخيرة في شارع الميناء مأوى للمتيمين والعابثين والأصنام وأنا، كنت أرقب الجميع محاولا نسج حكاية تخرج من المهرب البعيد. الأصنام وحدهم الذين كانوا أدنى من أن يفيقوا من نشوة الخمر، ليس لهم حيز بعالم الوجود وما يعلوه. فالنار المقدسة تعلو فهمه. يخيل إليّ حين صرخ بوجه الساقي كأنه يسكن في جوف كلب. الساقي الفلبيني الصغير يتجول دون كلل بين السكارى والمغرمين، وكأنه ينسج في خطواته بيتا من العنكبوت.

لم تفارقه الابتسامة والنور… من رحم عاق وجوده مرتبط بوجود تلك الأصنام في دولة من ظلام. كانت الأرواح مهزومة وأرواح الملائكة تكتوي جميعها في حسرة السهل والجبل. فالهواء والماء في البر والبحر يحفظان لي مكانا آوي إليه لأنشر الوجود. لن ألج في مسلك الفناء، ولن أنخدع بخديعة خطط “الإسكندر”، فأنا مخير بأن أوفي بما عاهدت… لكنني بالتأكيد لن أخلف وعدا وعدته. ولن أخون عهدا عاهدته… وسأفي بكل التزاماتي القديمة مهما بلغت السنون مداها. وستبقى الصورة بديعة.

وسأبقى كما عهدتني يا سيدي أنموذجا للجمال وأسطورة للجلال. وبحر بلا موانيء. والعالم كله سراب. فانظر إليّ نظرة كاملة، وابسط جناحيك وارحل من تلك القباب.

وانعم بالأنهار والأزهار والأشجار. واصنع من الأعناب ترياقا للروح. واكسِ نفسك بحسن القمر وسحر النجوم.

الشيطان أعجز من أن يعبث بك. فهل تختفي الأرواح بعد ظهورها؟ ها أنت تدرك الآن أن خوفنا المعتاد يذهب لحظة المواجهة مع الخطر. المبادرة هي الخطوة الأولى لتثبت لنفسك أنك الأشجع. فلا جبان يبادر فهو جبان.

والسخرية أن حمقه يقنعه أنه رفيع المقام. وهذا دفاع عن ذاته. وهو أمر طبيعي. والمدهش أنه يرى نفسه البطل. أسطح المنازل في المدينة وحدها المتحدة وكأنها ساحة أو مضمار لأبطال الأغريق…

كنا ونحن صغار ندرك أن هنا ميداننا الأكثر نجاعة… وكان موقفنا الأشد صلابة أننا نميل إلى المقاومة دون أن نفكر بالموت.. وأنه غير محتمل ولا يمكن تخيله.. كنا مقتنعين بخلودنا… وأن النصر هو الحتمي وليس الموت… لم تكن قلوبنا شريرة. لكننا عشاق للحرية التي هي أمر طبيعي لنا.. لم نشعر بالذعر وقد كنا نستدرجهم نحونا أسفل المنازل…

هكذا كانت استراتيجيتنا. وهكذا كنا ننتمي إلى قبيلة العدائين على مضمار الحرية… كانت الأسطح ملاذا لنا وللعشاق والحالمين.. لم نستنكر العيش الطبيعي لنا وللآخرين.. فقد كانت حياتنا كلعبة شطرنج يمكن أن نخسرها في نقلة خاطئة واحدة… لكننا ويا للعجب أتقنا اللعب. وبقينا على قيد الحياة دون أن نصاب برصاصة واحدة.

28-11-2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى