تربية عبد القادر الجنابي في نّسق المجون الثقافي

د. موج يوسف | أكاديمية وناقدة عراقية

الأنَّساقُ الثَّقافية استطاعتْ أن تفضحَ المَخبوءَ والمُضمر في النَّص الإبداعي، فعملتْ على تَعريّته، ورفع الأغطِية المتستر بها عبر  تشريح النص وتأويله، ووضعه في حيِّز الشك. والتساؤل المختلفة إجابته (هل يمكن للسيّرة الذَّاتية أن تحملَ أنّساقاً ثقافيّة؟).
الشاعر عبد القادر الجنابي في سيّرته الذَّاتية بعنوان (تربية)، الصادرة عن دار الرافدين قد أورد العديد من الآراء والأفكار الخاصة به.

وكما هو معروف عن أدبِ السيّرة الذّاتية أن هناك معيارا أساسيا في هذا الجنس الأدبي وهو حِياديةُ الكاتبِ وموضوعيته ؛ لأنّه يعرضُ دواخله ، وأفكاره عن نفسه وعن الآخرين.

وممّا يلفت النظر أن صاحبَ السيّرة جاءت مروياته اللفظية حاملةً نّسق العنف الثقافيّ والَّذي هيمنَ عليها، قد يكون هذا النّسق واضحاً وحاضراً عند شعراء الجيل الستيني من ذوي الميول التروتسكية والماوية التي سادت في تلك المرحلة، وكان للتطرّفِ في الحركات السياسيّة  انعكس على الكتابة الأدبية فيقول في صدد الحديث عن ثقافة جيله: (كنا ـــ الستينيون ـــــ نحس بضمأ شديد إلى معرفة الشعر العالمي.

نتلقف أي كتاب مترجم ، نطلب من أي متبحر أن يترجم لنا قصيدة واحدة لريكله ، بروتون ويكون عشاؤه مدفوعاً. كنا نتقيئ كل ما يسمى شعر الواقعية الاشتراكية.

فالمخيلة العراقية كانت متفتحة للأممي للفكر الآتي من أبعد الأعماق والآفاق الطليعية لتجربة الآخر في أعلى مراحلها) ص 49.

إن ما يرويه الجنابي يُشكلُ النّسق المركزي في سيّرته، فيمثل الصراع الذي نَشِبَ بين الجِيل الستيني وقد يبدو في ظاهره أنَّه صراعٌ ثقافيّ ، لكنّ ما أن دققنا في جوهره حتى نرصد أنه سياسيّ وهذا ما كشفته الايدلولوجية، فكان الخلافُ سياسيّاً فأخذ شكلاً ثقافياً ، وهذا الصراع صار نّسقَ العنف الثقافي الطاغي عند هذا الجيل، فالجنابي بسبب انتمائه للمذهب السوريالي وميوله التروتسيكة المتعارضة مع الواقعية الاشتراكية صار يتقيؤها عنفاً . وما يؤكد صراعه المستمر الذي انتقل معه من بغداد إلى لندن عندما وضع قدمه الراكلة بالعادات التقاليد: (عليك أن تجازف بكل تقاليدك وأعرافك وليس سوى طريقتين : التسول أو السرقة، لكن التسول يحتاج إلى أناس لهم القدرة على الخنوع واستشفاق الآخرين.

أنا لا تلين قناته لغامز ولدتُ متمرداً … يقتضي الآن أن اسرق ولكن ليس من صديق أو صاحب محل صغير، علي أن اسرق ، بل الأحرى أن أؤمم هذه الكتب التي تعج بها المكتبات الكبيرة الرأسمالية ) ص 58 . يهاجم الجنابي الأيديولوجيات الأخرى أو بمعنى أدق هو هجوم على الآخر، إذ ارفق صفة الرأسمالية مع المكتبة و بحسب رؤيتنا أن النّصَ يضمُر عنفاً ثقافياً، فالمكتبة الرأسمالية وسرقة كتبها ما هي الّا نسف لحامل تلك الأيديولوجية التي تتعارض معه، وهذا ما جعل الشاعر صاحب السيّرة يتناقض في آرائه فيقول (إنَّ قراءة صفحة واحدة من أعمال ادورنو ، مثلاً كانت لتحذيري من التشيؤ في المبادئ ومن التشيع لإيديولوجية ما  ص101.

نّسقُ العنف الثقافي الذي تمركز في مرويّة الجنابي كان بسبب الأيديولوجية التي اعتنقها محاولاً لوي عنق أيديولوجية الأخر في حين أنه حاول أن ينقلب عليها، متحرراً منها بينما نراه يستمر في نسقه الذي أضاء سرديته قائلاً (إنَّ الذين ساندوا نشاطاتي حقاً كانوا لبنانيّين وسوريّين ومغاربة وخليجين، أما العراقيون ما عدا قلة قليلة فإنهم كانوا في في أتون من  الحسد والغيرة ، وكأن نشاط هذه المجالات مرآة يرون فيها وسخ نشاطهم في خدمة النظام) ص 128.

الجنابي يرسم لنا في النّص لوحة ملّونة بالسيوسولوجية وهذا ما جعلنا نتوقف قليلاً، فهو يحاول رسم صورة المثقف المثالية له، مقابل نفي الأخر عبر تهم الغيرة والحسد في حين أنه يوجها فقط لمن عمِل مع النظام إذن خطابه المعنف كان ضد خصومه الذين لهم صلة بالنظام فقط. في حين أنه ينال من خصومه الآخرين بطريقة أخرى على حساب الأدب والشعر خاصة ومسألة التجديد فيذكر: (يجب أن يعرف الجميع أن ما يسمى بالتجديد الشعري العربي الحق هو نبتة لبنانية نبتت على أيدي شعراء مسيحيين منهم يوسف الخال ، شوقي ابي شقراء، توفيق صايغ ، خليل حاوي لكن لأنهم مسيحيون لم يكن بالإماكن إيصال رسالة التجديد الشعرية هذه إلى جمهور يشعر بريبة ممّا هو غير إسلامي ومن هنا انبثقت فرصة الاحتواء التميع.

وهنا يأتي دور أدونيس الذي لم يضف في نظري أي شيء ، بل على العكس أوقف كل شيء استغل كل هذا اللجم وبكل دجل لصالحه) ص141. إننا مع اختلاف الرؤى إن كانت نابعة عن تجربة وتحمل موضوعية، لكنَّ مثل هكذا آراء عليلة صادرة عن انفعال لا يمكن تقبلها، فالجنابي اطلق حجارة واحدة ليحطم زجاج نافذتين في آن واحد ، إذ ذكر التجديد الشعري لشعراء لبنان وتحديداً المسيحيين، مشدداً على ذكر الديانة، فمنذ متى تصالح الدين مع الشعر؟ أو بعبارة أدق ما علاقة الدين بالشعر؟  في حين أن للقاضي الجرجاني رأي مهم بهذه المسألة في كتابه الواسطة بين المتنبي وخصومه يقول: (لو كانت الديانة عاراً على الشعر وسوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ..) النّصُ الإبداعي هو الحاكم وما يحمله من عمق فكري أما ديانة الشاعر ومعتقده لا يعننا بشيء بل حتى لا يعني المتذوق للشعر أو المتلقي ورؤية الشاعر الجنابي عاطفية وتخلو من الموضوعية كما أنها سهلت لأن يرمي أدونيس بحجره بتهمة لجم الحداثة الشعرية. فمثل هكذا آراء تبطنُ نّسقَ العنف الذي اصحطحبه الجنابي في تربيته الثرية والغنية باعترفات كثيرة بالمقابل تبقى سرديات خادعة لأنّها حاملة نسق ، وهذا ما يقودنا إلى تساؤل آخر هل الحقيقة قيلت في سيرته ؟ تاركة الإجابة للقارئ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى