عمتي النخلة

منى النجم | العراق

كما طفل صغير يحتضنه أبوه، احتضن أبي فسيلة البرحي قادما بها كهدية لإحدى قريباته العاشقة للغراس.
يحوطها بحبه وحنانه. ويتفقد جذورها كل لحظة خشية أن تجف. فيبلّلها بماء شغف روحهِ لعمتهِ النخلة.
وايُّ نخلة؟ أرقى نخلة وأطيب ثمر؛ نخلة البرحي الواثقة من نفسها كثيرا.
تلقته قريبته بفرحة غامرة هاشّة باشّة وابتسامة واسعة وعريضة على محياها كمن تلقى خبرا بولادة وليدٍ ذكر.
دأبت تلك السيدة التي هجرت قريتها بعد الزواج إلى المدينة الفارهة على أن تجعل حديقة منزلها جنينةُ باذخة الاخضرار فاستقدمت كل تفاصيل الجمال.
فسائل البرحي التي وفدت إليها مع شجرة الحنّاء من أرض الطيبة الفاو الخصيب هدية. إلى جنب الشجيرات دائمة الخضرة ومختلف أنواع الورود.
كانت مساحة الدار واسعة تمتد إلى ستمائة متر، غصّت ثلثا مساحتها بشتلات نادرات.
فسيلة البرحي القادمة من مزارع الجنوب توسطت المكان وحازت اهتماما بالغا من وقت الحاجّة أم صلاح. وتعاهدها أبي معها لحظة بلحظة ويوما بيوم بحكم قرب السكن والنسب. حتى نجحت زراعتها في حديقة الدار.
كنت أرقب خلجات المشاعر، وطفحات السعادة بوجهيهما كلما أمعن عمرها بالتقدم. شغلني التفكير بهذه الفسيلة الأثيرة ولي من العمر عشرة سنين فارغة من الإدراك.
ورسخت في ذهني عبارة لوالدي الجنوبي الأصيل هو حديث للنبي العظيم  مفاده: أكرموا عمتكم النخلة. كيف تكون عمتنا وهي ليست آدمية هذا ما حيرني دهرا طويلا.
ورثتُ عشق النخل ربما من عشق أبي لها. وربما لأني ولدت على بساط أخضر سورّته النخيلات التي وهبتني شموخها ورحلت بصمت مرير.
حيث اندلعت الحروب وتطايرت الرؤوس لتظل أجذاعها محتضنة التربة في عشق أبدي عصي على الانمحاء.
الله يا منحة البرحي.
الله يامحنة روحي التي ورثتها من محنة هذه الأرض.

رحلت خالتي بمرض السرطان، وفارقني أبي بحفلة إعدام جماعي، ربما كان تمهيدا لإعدام الوطن.
وظلت النخلة ليومنا هذا تطعمنا رطبا جنيا بسخاء حزين.
شاهدةٌ على إعدام كل شئ جميل.
يبست عروقها ولا زالت تقاوم
بيعت أرضها ولا زالت تقاوم
تحشّف ثمرها ولا زالت تقاوم
تنتظر لمسة من أبي
وتعويذة من خالتي أم صلاح ضد الحسد  لتعاود اخضرار سعفها، وفرده بشموخ في سماء الإصرار.
وظلّت صرخة مدوية داخلي
صرخةٌ حبيسةُ جوانحي.
ستقضي عليّ ذات حين.
تقوّض كل مسامة للسعادة داخلي.
وأنا أرى أرضا زحف عليها اليباس والهجر.
سمع الأعداء صرختي ورددوا
ياصيحة تحمد من صوائحي
فهل ستوقظ صرختي أبناء قومي؟
ليت شعري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى