الصورة – اللوحة “البورتريه”

أحمد نسيم برقاوي | مفكر وفيلسوف عربي

منذ دخولك المطار وحتى تصل إلى قلب العاصمة تطالعك صور شتى على جانبي الطريق، على جدران البنايات، فوق الدوائر الرسمية. رجل طويل القامة، يرتدي بزة عسكرية مزخرفة بخيوط مذهبه، يعتمر طاقية جنرال

هي الأخرى تحيط بها زخارف ذهنية، وعلى عينيه نظارة سوداء، رأسه مرتفع كأنه ينظر إلى موقع عالٍ، يداه إما مرفوعتان إلى الأعلى حرتين أو متشابكتين تأخذان وضع تحية الجماهير، الصدر نافر إلى الأمام، وتحت الصورة أو فوقها عباراته المقدسة، إنها صورة حقيقية رسمت بريشة رسام إنها – أي الصورة نصب مليء بالجمل التي تفيد. البزة العسكرية –رمز القوة والعنف والحرب، البزة المذهبة والأكتاف المرصعة بالنجوم الذهبية والطاقية الموشاة بالخيوط المذهبة توحي بالثراء والمهابة والسلطان، النظارة السوداء تشعرك بالغموض اللامتناهي وسر النظارات المختفية وراء زجاجتين- حجابين، الصدر المتقدم إلى الأمام اختيال، والرأس المرتفع فهو الكبرياء والغرور، المشهد ينطق للسان صاحبه:أنا الذات المتفردة لا ذات إلا أنا، تكلمك هذه الذات السلطانية المريضة بأمر لا يحق لك أن تعترض عليه: أنا إلهك، اخضع لي، إنك تضحك في سرك أمام هذا العملاق المزخرف وأنت تقرأ الشذرات – شذرات الحكمة الغبية، لكن هذه الذات السلطانية تحب أن تظهر بصورة أخرى وعلى مقربة من الصورة الأولى. فها هو- نفسه الجنرال المذهب-يلبس الزي الشعبي، العمامة التي لبسها المجاهد أوالعقال الذي لبسه الثائر أو العباءة التي لبسها شيخ العشيرة، الصورة المرسومة بعناية والمعلقة على ساحة الجدار كله، والتي تفوق بحجمها حجم الجسد الأصلي تقول لك: أنا سليل العظماء المنتمين إلى التاريخ الصورة المزخرفة لجنرال مزخرفة يظهر الوجه عابساً إذ لا تليق بالجنرال هيئة الابتسام فيما الحاكم الذي ارتدى اللباس الشعبي يفتر ثغره عن بسمة تسعى لتقريبه من الناس. صورتان للترهيب والترغيب، إنه هو في ثوبين أيديولوجيين: أيديولوجيا الغضب

وأيديولوجيا الود. لا ينسى الديكتاتور صورته الثالثة: أنها هذه المرة نصفية وقد تكون طولية لكنه الآن بالبزة المدنية وربطة العنق على قميص ابيض وملامحه قليلة الكلام. لا عبوس ولا ابتسامة، لكن شعره اسود فاحم، إنه رمز المدنية والحداثة مظهر يليق بابن المدينة ويقول لك: إنه الآن ابن العالم الجديد، عالم الموضة، ولا ينسى الراسم أن يكون لون البزة سوداء أو كحلية

لإضفاء نوع من الوقار على صاحب العظمة.

 

الصورة هنا وثيقة بكل ما فيها من زيف إذ الزيف الكامن فيها وثيقة، وثيقة تظهر الزيف وتقرأه باكتشاف الذات المصورة بالألوان حيث الذات المصورة لا وجود لها أصلاً.

لاشك أن رسم الصورة الحاكم – الدكتاتور عادة أوربية قديمة وعادة عامة، لكن الفرق بين رسام الملك في القرن السابع عشر في أوربا ورسام الطاغية في الوطن العربي، أن الأول كان فناناً موهوباً، واسمه يطبع على اللوحة، فيما الرسام العربي مجهول، الصورة التي يرسمها فيلاسكيز في القرن السابع عشر للملك فيليب الرابع صورة طبق الأصل لكنها ذات مضمون جمالي والألوان ألوان تثير الحساسية الجمالية . فهناك صورة يرسمها فيلاسكيز للملك فيليب الرابع وهو في رحلة صيد. ولو إن المرء لا يعرف أنها للملك فيلب الرابع لما خالجه الشك بأنها لوحة فنية متخيلة، حيث ألوان الطبيعة وصورة الكلب ونظرات الملك كلها توحي بأن تشكيلاً ما قد قام به الرسام.ورسم البورتريه مازال مستمرا ًحتى الآن وسيستمر رغم وجود العدسة الدقيقة. وآية

ذلك أن رسم البورتريه محدود بالخاصة الذين يرون بأنامل الرسام قيمة أكبر بكثير من آلة صماء حيث الأنامل تتحكم بالألوان والخطوط والنظرات إن الرسام هنا ذات فاعلة أكثر بكثير من ذات المصور الفوتوغرافي. معروف أن فان كوخ كان مولعاً برسم الطبيعة وكذلك البورتريه ها هو يرسم نفسه مرة

وهو يمسك بالألوان والفرشاة 4441 إنه وجه وديع وعيناه تنظران إلى الشمال ودون قسوة، ويرسم نفسه معتمراً القبعة في صيف 4448 الشر والعنف يطلان من نظراته، عيناه تحدقان بقسوة.

وفي العام نفسه الذي يرسم فيها نفسه حاملاً الفرشاة والألوان يرسم ذاته البورتريه بالألوان الخلفية الزرقاء والخضراء، والسترة من الألوان نفسها والوجه صارم دون عنف الصورة كأنه جالس أمام الكاميرا .

فان كوخ يوثق قطعة لإذنه في صورة لاتشبه أبداً صوره السابقة وهي أيضاً مرسومة عام 4441 عيناه بريئتان – عاديتان، إنه الآن بلا لحية، الشاس على خده الأيمن من سالفة حتى رقبته يعتمر قبعة شتوية ومعطفاً شتوياً ويضع الغليون في فمه، تحسه شاحباً، خلفية الصورة ملراء موشحة بالبياض. فان كوخ هنا يرسم حالاته الإنسانية، ذاته في تحولاتها.

فان كوخ هذا الذي انتحر يحب ذاته ويبدو لأنه يحب ذاته كما تريد أن تكون وكما يريد أن يعيش ولأنه فشل في أن يكون ما يريد أن يكون انتحر وخلف ذاته في صورة الشخصية.

ولو تأملنا الشخوص التي رسمها والذين يرتبط بهم بعلاقة خاصة لأدركنا الفرق الكبير بين الرسام لذي يختار الوجوه ليرسمها والكاميرا.

في عام 4411 وفي شهر حزيران يرسم فان كوخ بورتريه للطبيب الذي يعالجه “جاشيت” شخص متكئ على الطاولة سانداً رأسه بيده اليمنى، اليسرى مفتوحة تلمس نهاية شتلة من الورد، الخلفية زرقاء كما لون اللباس، القبعة ذات لون ابيض غامق تقريباً يشبه لون العينين، هدوء في الوجه وتأمل شديد والنظرات ساخرة تنظران إلى اللامكان، وتوحي الشفتان بالتعجب أو التأفف.1 في اللوحة هذه – اللوحة الوثيقة – هل الطبيب الحقيقي هو ذاته الطبيب الموجود داخل الإطار ؟ أم أنه الطبيب كما رأته ذات الراسم، إنه ولاشك الطبيب نفسه الذي رأته ذات الرسام ببصيرتها على هذا النحو. فالطبيب ساهم الطرف وفي عينيه سؤال ولاشك سؤال وجودي2، بصدد بورتريه طبيبه جاشيت يكتب فان كوخ لاخيه قائلاً:« إن البورتريه يلهب خيالي وإحساسي أكثر من أي وقت آخر ذلك هو البورتريه الحديث وآمل أن اكتشف سره وخفاياه الباطنية من خلال اللون ولاشك ما أريده هو هذا»3، سر البورتريه وخفاياه الباطنية، هذا الهدف الواعي للذات التي تقوم بالرسم يجعل من البورتريه نصاً حقيقياً مكتوباً بريشة الفنان. إني وأنا أتأمل الصورة التي رسمها فان كوخ لوالده عام 4444 وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره، أدرك تلك العلاقة الباردة التي أقامها فان كوخ مع والده، لقد رسم قسيس القرية: الوجه جانبي والأنف طويل متقدم إلى الأمام والنظرات جاحظة باردة. لماذا لم يرسم وجه أبيه كاملاً كما يرسم وجهه هو ذاته؟ هذا الوجه ليس وجه أب، إنه وجه رجل قاسٍ جداً لا حنان فيه ولا شفقة أعود لسؤال سابق بصيغة جديدة: هل رسم فان كوخ صورة أبيه؟

الجواب نعم رسم صورة عن أبيه لكن رسم صورته عن أبيه عبر رسم أبيه. الصورة- التمثال الصورة اللوحة- البورتيريه تظلان قائمتين في حقل ضيق، ضيق طبقياً وضيق إنسانياً.

النحات- نحات الوجوه- نحات ذوات مراكز، أصدقاء ليس إلا، وكذلك الرسام، وإن كان حقل انشغاله بالوجوه أوسع، فالفنان الرسام يلتقط شخوصاً من الحياة اليومية وبلا اسماء يرسم وجوه أحبته يرسم وجهه على أنحاء مختلفة كلاهما يقيم علاقة جزئية بالزمن .

فلا يستطيع النحات أن يلاحق وجهاً في تحولاته، وكذا الرسام فالزمن ثابت، متقطع، إلى الحد الذي تقوم هناك رغبة في التثبت بلا سيلان الحياة.

مع آلة التصدير حدث أعظم انقلاب في علاقة الصورة بالذات لقد ولدت، للقطة. تقوم علاقة دائمة بين اللقطة والزمن الشخصي. اللقطة حدث زماني، أنها ذاكرة الشكل

المعبر، المطبوع على الورق، ذاكرة مطبوعة على الورق، تكتب سيرة ذاتية لتحولاتك، الذات لا تستطيع أن تتذكر وجهها في المرآة قبل عقد أو عقدين أو خمسة عقود. في الصورة الفوتوغرافية أتأمل ذاكرتي، صورتي ذاكرتي، تحولات، زمني، الطفل الذي كنته المراهق الذي ضج بالحياة الرجل الذي وضع رجليه على طريق العمل، الشيخ الذي يلاعب حفيدته. اللقطات تثري، وحدك ،ومع صديقك، مع رفاقك، في هذا البيت، تحت الشجرة، أمام المتحف، في شارع المدينة، مع الحبيبة، حاملاً ابنك وابنتك، مضجعاً، واقفاً، جالسا،ً مبتسماً ضاحكاً، عابساً، مهندماً…

كل لقطة تمنحك إحساساً خاصاً بالوجود- وجودك الكلي، ودون أن تدري أو تقرأ هيراقليطس أو هيغل أو ماركس- يخلق في ذهنك مفهوم الزمن، مفهوم السيرورة، مفهوم الكيف، ودون أن تقرأ برغسون تدرك مفهوم الزمن الروحي- الشخصي، ودون أن تقرأ هيدجر

وسارتر تشعر بالعدم . العدسة – الآن التي تلتقط لك مئات الصور في لحظة زمنية قصيرة – تراكم لديك تحولاتك، وشيئاً فشيئاً تصبح كائناً من حنين إليك، الحنين إليك ممض أكثر من الحنين إلى آخر.

لكنك الآن في كل لقطة أخرى لذاتك إنك تقطع المسافات إليك في لحظة تأمل مندهشٍ. لكنك لا تستطع أن تستعيد- على مستوى الواقع – أية لحظة أبداً. الحنين إلى ذاتي – وعي العبث الوجودي أو الوجود بوصفه عبثاً. وإذا كان صحيحاً أن الذات وهي تستعيد ذكرياتها بالصورة إنما تقوم بالحنين إلى ذاتها ولكن الذكريات الآن صورة ترى فيها نظراتك،حركاتك، تعبيرات وجهك، المكان الذي كتب فيه، ها أنت – باكتشافك لذاتك على أنها آخر لك تجد نفسك أكثر من آخر. إذاً في أي آخر تكمن أنت مع إنك أنت أنت، أنت الذي في الصورة هو أنت لكنك وأنت أنت أنت آخر مختلف، الطفل الذي هو أنت في زي المدرسة ليس هو أنت في ربطة العنق، هل يخالجك شعور بالأبوة تجاه الطفل الذي كنته وأنت تنظر إليه ناشئاً أم الحنين إليك. أنت في تأملك ذاتك في الصورة – تعيش عواطف متناقضة تجاه آخر هو أنت عواطف لاتمنحها إياك المرأة، المرأة تشعرك بالحالة، الصورة تشعرك بالاختلاف. في وعيك لذاتك أنها آخر تعيش تجربة ذاتية لن تعيشها أبداً في حقل آخر من حقول

وجودك. ألبوم الصور – سيرة حياة ذات ملامح أقوى من اللغة المكتوبة أو الشفاهية الصورة-النص ليس تأليفك إنه أنت ولا يستطيع أحدٌ أن يعيش تجربتك في تأمل ألبومك. في وقت ما تشعر إنك بحاجة لتملك صورتك على جدار غرفتك، أو صورة من تحب منحيث حقيقة شعورك فإنك تعلق الزمن، تضعه بين قوسين، هذا الزمن الذي تحب تقتطع من الزمن النهر قطرة فتمجدها لأنها الأثيرة لديك. وأنت إذ تنتقم من الزمن السيّال، تنتقم من النسيان لكن انتقامك من النسيان يذكرك أنك أنت لست أنت الذي على الجدار. الصورة تحملك على الاعتراف بأنك وجود وعدم . أخطر ما في الصورة الفوتوغرافية الرقمية أنها أصبحت ذات وظيفة لدى الدولة – السلطة، وبخاصة الدولة المستبدة. صورة على هويتك الشخصية، صورة شخصية على جواز سفرك، صورة على إجازة السوق، صورة على سجلك المدني، صورة على جهاز الكومبيوتر، صورة في أماكن رسمية لا تدري عنها شيئاً. إن وجودك مراقب، الصورة الآن أداة مراقبة، الصورة وثيقة للدراسة من قبل جهاز متخصص بالكشف عنك.

أجهزة الأمن لدى الدولة، الدولة – الوطن، أو دولة الغير لا تهتم بذاتك إن كنت أكاديمياً، شاعراً، روائياً، عالماً، فلاحاً، بسيطاً، عاملاً تبحث عن رزق أنت متهم، الشيء الذي يثبت براءتك الصورة صورتك ليست من بين صور المجرمين والمهربين والإرهابيين والأعداء، صورتك صك اتهام وصك براءة معاً. ها أنت في الأرشيف أرشيف المحفوظات التي كانت مصنفات ثم صارت شاشة كومبيوتر.

صورتك الأرشيفية صورة طبق الأصل تماماً، دون ابتسامة أذناك ظاهرتان وللصورة قياس خاص دون التفاتة خلفيتك سوداء لون القميص ابيض الصورة يجب أن لا يخطئها أحد أبداً. لأول مرة في التاريخ يغدو جميع الأفراد مراقبين عالمياً، لأول مرة تشعرك الدولة، أي دولة – أنك في قبضتها حتى ولو كنت حراً.

لقد غضب سارتر في “درب الحرية” من ذاك الذي افسد عليه وحدته في الغابة، كان مجرد شخص، شعر سارتر أن هذا الشخص يتلصص عليه فيسلبه كل وجوده الحر.

ها هي الدول تفسد عليك حريتك الدولة آخر- سلطة تحتفظ بصورتك الشخصية تتلصص عليك وتطابق بين اسمك وصورتك.

الصورة التي احتكرتها الذات المركز، الذات، ذات الحضور بوصفها تعبيراً عن الأهمية والحضور والمكانة والرمزية من خلال التمثال والرسم أصبحت عامة، لجميع الناس كل إنسان صار قادراً على أن تكون له صورته التي يريد. أعظم حالة من حالات المساواة في الحق بالصورة تمت عبر العدسة بمعزل عن المصور ومكانته، هذه الصورة التي صارت في متناول الجميع صارت في الوقت نفسه في متناول السلطة. رجل الأمن المتخلف والهمجي في الدولة المستبدة الخائفة من حرية الكائن والسالبة لحريته يغضب منك ثم يريك صورة لك وللمرأة التي تحب في حالة حب جنسي أداة تهديد وابتزاز. الكاميرا التي هي أصغر من زر قميص تتجسس عليك.العدسة أداة تجسس، تتجسس على حياتك على وجودك، وجودك مستباح إن كان لوجودك حضور .

الصورة أداة قمع ،لم تعد صورتي الخاصة بي جزءاً من عالمي الشخصي، من ذكرياتي،من وجودي، من زمني.. فقط بل صارت هناك لدى آخر يترصد بي.

  • راجع فاطمة علي، فيلاسكيز، سلسلة الفن العالمي”أخبار اليوم” قطاع الثقافة، القاهرة، بلا تاريخ. 2 – راجع فاطمة علي، فان كوخ، سلسلة الفن العالمي”أخبار اليوم” قطاع الثقافة، القاهرة، بلا تاريخ

أنطولوجيا الذات .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى