سؤال الهوية في نصوص المهدي الحمروني

د. عزة رجب سمهود | روائية وشاعرة – ليبيا

ديوان (مُحيا راودته الآلهة للنبوة) أنموذجا

الرصد في ديوان (مُحيا راودته الآلهة للنبوة) يمضي بنا إلى مجرات متباعدة من دروب النثر المتُوقِّد تارة والذي تخبو جمراته تارة لتشعل فتيل الكلمات في موضع يفاجئ القارئ بهذا الانفجار في معجم اللغة، هي تلك النصوص حمَّالة الأوجه، والقابلة للتأويل المفتوح على مصراعيه حين تُترك القصائد مفتوحة وهي في آخر عتباتها، ومغلقة بانتظار مفاتيحها التي تظهر غالباً في ذروة النصوص المهدية بشكل عامٍ.

لعل الشاعر المهدي الحمروني ارتأى أن يمضي بلا اصطناع لأنفاسه الشعرية، فتلك الأعمال في باكورتها تنطبع بإحساسه المُخصَّب بلغة الشعرية السريالية تارة، والواقعية تارة أخرى، والموضوعية في نصوصٍ تنقاد لقراءة حاضره بعيداً عن التملق والانتفاع بالشعر حين تُكتب الكلمات من أجل الأيديولوجيا.

إنَّ أيديولوجية الحمروني هي ذاتها الانتماء المنبثق من الشعر كوظيفة مثمرة وفاعلة، عندما تضيء اللغة من أجل الحد من العتمة، وعندما تستحيل هوية ثقافية، ونبضٌ يصبُّ في شلاله في شرايين الحياة، فهي نصوص مستقلة بذاتها، تكونت كنتاجٍ من تشكيلات نابعة من علاقته بالبيئة التي حوله، ومن عدة علائق تعود خيوطها لموهبته المتعددة في كتابة ألوان الشعر النثري، والسردي، والعمودي.

لذلك ليس ثمة استغراب أن تقابلنا الموسيقا بتشكيلها الإيقاعي الظاهري والخفي في نصوصه (محيا راودته الآلهة للنبوة) بعيداً عن الوقوع في فخ التنغيم، فالتناغمية بتعريفها البسيط يمكنها أن تفتح باب اللحن في النصوص النثرية إذا استغرق الشاعر بتركيزه على المجازات التي تسمح بانفتاح النَّص على الموسيقا، ولأنَّ النَّص النثري ــ هو النَّص الحر، فهو غير مكللٍ بمزامير اللحن، و إن بدا موجوداً في بعض الأحيان، لكنه ممنوع من الاستغراق فيه كونه نشأ متحرراً من تفعيلات الخليل وتقطيعاته.

ويبدو سؤال الهوية في نصوص الحمروني غير بعيد الإجابة، فالهوية الشعرية تكتسب نفسها من المحيط بكافة حيثياته، كونه يمثل عالماً مخصوصاً بالإثمار، ذلك الذي يعني ــ في نصوصه ـ أنَّ النَّص لابد أن يثمر عن رؤى مخصبة بالخيال المجنح نحو عوالم لا منتهية من العلائق اللغوية، ومن المفردات النادرة التي يعجُّ بها قاموسه الشعري، علاوة على أنَّ نوافذ النصوص تبدو مشرعة لأي قارئ يتمعَّن في الكتلة البنيوية التي بُنيت عليها، بحيث يمكننا أن نقول أننا نقرأ ثلة من النصوص التي يمكنها أن تتوالد في دوالٍ أخرى، وذلك بسبب ما ينبثق عنها من معانٍ سببها الانزياحات الشعرية، والرمزية في سرياليتها، والمجازات في تنوعها، ولعل هذه الموازنة في التنويع بين المجازات البلاغية والرمزية سببها أجواء النصوص وما يمكن أن تضخه من مفردات تقود الشاعر إلى اتباع نمط معين في تشكيلات نصوصه الشعرية.

وإذا كان سؤال الهوية ـــ كهاجس ينتاب فكر كل شاعر، يقود العلاقة بالشعر إلى محاولة الإجابة، فإنَّ الهوية في نصوص الحمروني تتلاون وتتغاير بين براحات نصوصه، إذا اعتبرنا أن عتبة كل نصِّ ليس شرطاً أن تكون مفتتحاً لفكرة النَّص بل تكاد تكون مدخلاً تجريدياً حراً قادراً على التَّنصل بانسياب ناعم من الربط بمحتوى النَّص، ولعل هذا اللون خاص بالشاعر وبطريقة كتابته، ويبدو جلياً في بعض نصوص الديوان.

يقول الشاعر في قصيدته (عاشق الشمس)

أنا بعيد عن طرابلس

أكثر من أي وقتٍ

عن شارع الشط

بعقدٍ شاسع من الألم

عن المقابر الرائجة في أعوامها العجاف

عمَّن يتسربون في صمتٍ

بعد أن ضوّعوها ضجيجاً وموسيقا

وغفوا دون أن يملؤوا دنياها

ويشغلوا ناسها.

إلى أن يصل قوله : إلى مدى من وطن

لأجل مساكينها الذين ذبت في حبهم

والانتماء لتعاستهم …..

كما خذلك الشغف الدامع

في نحر البلاد.

كل هذا الألم يصبُّ في مصلحة الانشغالات الفكرية، حين تغدو هاجساً يبحث عن مضمونه، ولا يريد أن يباغته بالتعرية، ولا يرغب في يُسقطه في فخِّ اقتفاء أثر القافية، ولا يرغب إلا َّ أن يكون حراً في تعبيره عنه، كونه لا يتجلى إلاَّ باستطراق هذا الباب الحر من زينة التناغمية، إلاَّ أنَّ الألم في كونه بئراً عميقة، وفي كونه يقتفي ظل نفسه، وفي كونه ينشد أناشيده بخصوصية يأبى إلاَّ أن يخلق موسيقا خفية تعبر عنها مفردات الشاعر التي تئن متسائلة عن هويتها الممتدة حتى جرح يطول مسافة ليالي طرابلس التي ترزح تحت وطأة المعاناة.

ونعلم أنَّ الهوية لا تقتصر على التعريف بشخص الفرد في المجتمع، لأنَّها تسير إلى تعريفات زمنكانية وانفعالية كالوجدان والشعور، وتاريخية وتراثية كالموروث التاريخي، وكاللغة بوصفها أداة تعبير ونقل ينتسب إليها الإنسان بناء على مكانه وموطنه، وقياساً على ذلك فإنَّ سلطة النصوص في ديوان ( محيا راودته الآلهة للنبوة) نابعة من كينونة تنقل معطياتها بعدة تراجم، وتتشكل وفق إحداثيات و دوال نصية، ومرة عن مرة تتعدد في أوجهها لتكون بؤرة تعريفات إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الهوية في المفهوم الدلالي اللغوي عبارة عن كلمة مركبة من ضمير الغائب، مضافاً إليها ياء النسبة، لتدل على ماهية الشخص أو الشيء(1) (المصدر : انطولوجيا القول الراغب و الإناسة المظفّرة : محمد الحبيب الرويسي)

وفي مفهوم آخر نراها تتحول إلى شبكة دلالة تمنح المعنى للوجود والثقافة والتاريخ ومن جهةٍ ما أنَّ الإنسان عبارة عن كائن مثقوب بأقواله الرمزية، فإنَّه لاينأى عن رسم حدود أنيته وغيريته بواسطة منطق الهوية. (2) نفس المصدر السابق ـــ انطولوجيا القول الراغب و الإناسة المظفّرة: محمد الحبيب الرويسي – كتابات معاصرة عدد 62ص، هوية الشعر وشعر الهوية، مقال فوزي الديماسي، جريدة الحقائق، 2005،12/18

وبناء على ذلك سنجد أنَّ الهوية في هذه النصوص ليست صورة نمطية أو دارجة، بل هي كائن يتماهى مع الرؤى الشعرية للشاعر، ويمضي في الانسياق معها ليظهر بين زاويا نصوصه في أنساق متعددة، تبدو ظاهرياً كأنها وصفٌ قريب للموصوف، أما من الناحية السيكولوجية للنَّص نجدها تومئ بإيماءات ذاتوية متشربة من روح الشاعر ومتكلمة عنه بكل انسياب في الصور المتلاحقة عبر قصائده.

بعيداً عن الشعر

بعيداً عن مديحك الذي أدمنته

فزهدت فيه

و رغم زعمه في النَّص المعنون بعنوان (صورة) بأنه يكتب بعيداً عن الشعر، لكنه يقع في تعريف جيَّد للهوية المتجسدة في حبيبته، وفي تقريب البعيد الذي يأتي بأقرب صورها إلى نفسه، فيقول في النَّص المعنون بعنوان (صورة)

الله يجازيك

سأحدثك هذه المرة

كحبرٍ على ورق

بعيداً عن مزاج مجازه الصوفي الخجول جداً

في سحنة مداده

بعيداً عن انفصام كائن خيالي العاشق

حين يعالج صور الورد المرسل إليه

في تحية الصباح وتهاني العيد

إلى ما يقودني لمحياك وحده

في لا وعيي

ويرى في كل اختيار للوحاتك

وجهاً آخر لك

أنت لا تدرين عن غرور الشاعر

المقدس للخصوصية

والنافر للمشاع

في صورتك الشخصية على البروفايل

والصفحة العامة

حين يلوذ بوهم احتكاره بابتسامتك.

إنني بحاجة لصورةْ خاصة جداً

في مرور خاطفٍ ــ كالهلال أول كل شهر

ترفُق بي ــ وبعزلتي ــ وبحزني .

إنَّ الشاعر لا يعيش بمنأى عن سرِّ الوجود، فالمرأة كائن يحدد انتماء الشاعر، ويرتبط بقوة وأواصر شعرية داخل نصوصه، ليس باعتبارها فقط سراَّ وجودياً، بل أيضاً باعتبارها رابطة روحية تصله بأشياء عالمه، على اختلافاته، وعلى تشكيلاته المتنوعة، وحتى في حزنه يمكنه أن يعتبرها حاضرة هذا الحزن، لأنها تملك أن ترتسم في ملامحه بكل سهولة ويسر من خلال لغته الشاعرية.

وسؤال الهوية في عمقه المعنوي يتخلَّق بنفسه، عندما تغدو الكتابة سبباً فيه، لأنَّ الكتابة الشعرية في حد ذاتها هوية معبرة، وحاملة لكينونة ذات، وقادرة على التعريف بنفسها، فهي قطعية كونها منهلاً مباشراً ينبع من الشاعر نفسه، وهي قطعية كونها لا تقبل الهزيمة، وحاملة لهوية لنفسها ـــ كهوية قطعية، ومنتصرة لمحيطها، و مُعرِّفة لهويته ومعبرة عنه، ولذلك كلما كانت النصوص الشعرية معمرة بروح كاتبها وهويته، كلما كانت الكتابة ذات قيمة وجودية أكبر، بعيدة عن المجازفة، قريبة من المأساة، نافرة للتهريج وخبط العشواء، متمازجة مع الجِدة والطرافة، فهي في جميع أحوالها قد ترقى لمستوى أنْ تكون ذات قدسية عند أفراد المحيط الذي يعيش فيه.

وقد يقودنا الحديث عن الهوية للحديث عن شعاب أخرى تتفرع من طريق السؤال، فالنَّص النثري في ليبيا تحديداً مازال يحاول التماس طريقه نحو الوجودية على خارطة الأدب، وأكثر ما يزعج الشعر أنَّ هذا اللون أخذ مكانته بين الأمم الأخرى، وخُصصت له جوائز، ودراسات، وأصبح له رواده، و مواقعه، ورسائله الأكاديمية التي تتناول تاريخه الأدبي، هنا يبدو سؤال هوية الشعر النثري أكثر صعوبة من هوية الشاعر في ديوانه: (محيا راودته الآلهة للنبوة) ذلك أنَّ الشعر التفعيلي والعمودي لا يألو جهداً في الايعاز بأنَّ هذا اللون منبوذ في هذه البلاد، رغم أنَّ المعرفة في حد ذاتها تبدو خلاَّقة، و رغم أنَّ الكتابة في وظيفتها تُعد سلاحاً لا يُستهان به على اختلاف أشكالها ومشاربها.

ولعل هذا يؤخر من إجابة الهوية في قصيدة النثر الليبية، مع الإشارة إلى مدى تفاعليتها وقربها من النفوس والقرَّاء، وتناولها لمواضيع الحروب وعدم الاستقرار بشكلٍ يكاد يتحول إلى تدوين يومي، فهل الهوية هنا تُعد منبوذة من قِبل فئة ترى أنَّ الكتابة الشعرية تقتصر على وجود التفعيلة والبحر في دواخل النَّص؟ بالطبع لا، وقطعاً لا، لأنَّ الكتابة إن فقدت دورها أصبح وجودها نافلاً (3) (المصدر انطولوجيا القول الراغب ، الحبيب الرويسي، ص 56 ) .

ومجمل القول السابق يقودنا إلى رفض مفهوم الاحتكار ــ أو رأسمالية الفكرة إذا قادتها مجموعة على حساب فكر مجموعة أخرى.

علاوة على أنَ ذلك التناسب الطردي بين الإيجاب بنعم وبين قصيدة النثر جعل الكتابة في هذا اللون تكاد تتحول إلى قصدية خاصة (في الفينومنولوجيا القصدية هي الموقف المكون للفكر على أن يكون له محتوى، والتوجه بالضرورة إلى موضوع خلافاً لذلك لن يكون هناك أي فكر)

يتطرق إيمانويل كانط لشرح القصدية كفكرة جدلية بأنها تنبئ على أنَّ الشيء لذاته، والشيء لذواتنا، ولعل هذا ما يجعل النثرية في ليبيا تمضي قدماً في غير التفات لإهمال الأكاديميين من أساتذة الجامعات، وتسير في خطى حثيثة غير مهتمة لما تلاقيه من حروب كلامية، وجدالات عقيمة قد تسبب جروحاً فكرية في ذاكرة الأدب الليبي، هنا يجيب سؤال الهوية عن نفسه في قصيدة النثر، بتتابع الإصدارات ووصولها عربياً إلى جوائز محلية، وعالمياً إلى تراجم عديدة نقلت أدب ليبيا إلى مصاف الأدب العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى