التكليف وتشكيل العقل البحثي

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

 

وهذا العقل الذي يتلقى التكليف (فهما أولا، وامتثالا ثانيا) لا بد أن يكون له معرفة بدهية أولية يعلم بها الإنسان ما ينفعه وما يضره، وإن نظر إلى التكليف من وجه المشقة والقيد من خلال (الأمر والنهي)، فإنه وإن كان في ظاهره امتثالا لأمر الله الخالق المستحق للعبادة، فليس ثمة تعارضا بين امتثال أمر الشرع، وأن يشمل هذا الشرع في مضمونه مصلحة الإنسان وسعادته وفلاحه في عالم الدنيا والآخرة.

وانطلاقا من هذه القواعد الشرعية التي قررت وجعلت من العقل أمينا على التكليف وبصيرا على استنباط ما استشكل منه، وتفصيل المجمل، وتخصيص المعمم.. فقد انطلق العلماء الأول ممن فهموا عن الله وعن رسوله في الاجتهاد لهذا الأمر وإعمال العقل، وتأصيل قواعد لفهم الشرع مبناة على الأصول التي اتفق عليها العقل البشري عموما، لا تخص الشرع الإسلامي بعينه بل تصلح لكل علم.. قد يضيف إليها العقل أو ينقص لكنه لا يخرج عن قواعدها..

ولفهم القرآن الكريم وتفسيره فقد جعلت هذه الأصول التي عدها علماء التفسير من: العلم بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ولغة العرب، والمجمل والمفصل، والمطلق والمقيد، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتقييد السنة وتفصيلها لمجمل لقرآن.. كما وضع علم أصول الفقه، وعلم الحديث، وعلم الرجال (الجرح والتعديل) وعلم السند الذي انفرد به الحديث النبوي عن سائر العلوم.

وانطلاقا من هذه القواعد العلمية البحثية وأسس الاستنباط والتأصيل، اتجه البحث العلمي إلى العلوم الكونية على هذه الأسس النيرة البينة، فترجمت كتب الفلسفة (الرياضية والعلمية والإلهيات..) حيث كانت الفلسفة في وقتها (أصل العلوم الكونية)، ثم شرع العلماء في النظر والبحث والاستنباط في علوم الكون والحياة استرشادا بهذا التأصيل، وانصياعا لهذا الأمر الإلهي (قل سيروا/قل انظروا..) الذي يدفع العقل البشري دفعا إلى التزود من المنهج العقلي العلمي، كما تزود من المنهج العقلي الشرعي.

كذلك كان تبلور العقلانية الإسلامية فلسفة متميزة هو الآخر، مبكرا في تاريخ حضارة الإسلام.. لقد ضمت الفتوحات الإسلامية في القرن الهجري الأول دولا وأقاليم مترامية الأطراف من المغرب والأندلس إلى داخل حدود الصين واحتضنت الدولة الإسلامية شعوبا وقبائل وقوميات ولغات ومذاهب وديانت وفلسفات ومللا ونحلا مثلت كل ألوان الطيف لعالم ذلك التاريخ. (1).

في مجال العلم التجريبي ترك النقل للعقل الزمام ليطوف في ملكوت السموات والأرض ولتكون التجربة هي دليله في سعيه ، وداعمه في إقامة حياته العلمية على الوجه الذي يخدم حياة الإنسان ويحفظها، ويوطد هذه العلاقة التاريخية بين الإنسان والكون الذي قدم عليه مسخَّرا له كما شاءت الإرادة الإلهية وذكرت ذلك في أكثر من موضع “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)[إبراهيم].

وحيث كانت الفلسفة هي أم العلوم ومبتدأ البحث فيها في الثقافة اليونانية والرومانية والفارسية والهندية، فقد درج كثير من علماء الإسلام على دراستها بعد الترجمة ثم القفز منها إلى علوم الكون (الكيمياء، والطب، والفلك، والجغرافيا، و…).. وإن كانت قد جرفت ببعض العقول المسلمة إلى منعطفات مغايرة لا توافق قطعيات الشريعة الإسلامية في مسائل(الإلهيات) التي جاءت بها الشريعة كافة للعقل عن البحث فيما سواها، وليس هذا احتكارا لبحث العقل لكنه مجال قد سبق القول فيه أنه متعلق بالغيب قد ضرب فيه الفلاسفة بعقولهم أزمانا ولا يزال الكثير منهم مستزيدا لم يجن من بحثه سوى كما قال الأول: ولم نزد من بحثنا طول عمرنا    سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا..

وقد رأينا كثيرا من السادة الأول كسقراط وتلاميذه حين تحدثوا في أمر (الإلهيات) وغربوا بعقولهم في الآفاق ذكروا أن ذلك لا يمكن ان يصل فيه إلى علم قطعي إلا بالنبوة.. وأن الإبحار فيه بالعقل أشبه ما يكون بعبور المحيط على لوح من خشب يوشك أن يهلك صاحبه، واحتمالات النجاة فيه عسيرة.

ولذا.. فقد رأينا هؤلاء الأفذاذ من فلاسفة الإسلام رغم الشهود لهم بالعلم والنزاهة إلا أن كثيرا منهم ممن خاض مضمار البحث لم يسلم أن يصيبه مما أصاب كثيرا من الخائضين قبله، وقد شمر لهم أئمة الإسلام مثل (الغزالي وابن تيمية) كتبا في الرد والنقد على مذاهبهم التي أبت إلا توفق بين الشريعة والفلسفة، وهو الجمع المحال، حيث التوفيق ما هو (بشري) بطبعه يحدوه النقص لا محالة أينما حل، وما هو (إلهي) يسمه الكمال في الأزل والأبد.

كذلك كان من أثر التكليف على العقل البشري الدعوة الحثيثة إلى حفظ الفروض الخمسة (الدين والعقل والنفس والعرض والمال).. ولذا فقد حرم على الإنسان جزما كل ما يضر بها، والعقل خاصة فيذهب بعضه أو كله كالخمر والمسكر والمخدر والمفتر.. وكما أعطى للإنسان العذر الشرعي حين غياب العقل (كليا أو جزئيا)، فإنه كذلك أمره بحفظه وطلب ما يؤدي إلى حفظه وإعلاء شأنه، كالعلم والتدبر والتفكر والنظر والبحث والدرس.

كما كان من صميم هذا الحفظ والتكريم أن أبعده عن كل ما يؤصل للخرافة أو الدجل أو من العرافة والكهانة والتنجيم والاستقسام بالأزلام أو غيرها، مما يؤدي بشيء من مثله إلى حجب العقل أو توريته؛ وقد كان مبدأ ذلك من العقيدة التي رفضت كل أشكال الهيمنة الأرضية على القلب والعقل، وجعلت هذا لله الواحد الأحد..

ولم تجعل هذا الاعتقاد خارج دائرة العقل أو فهمه أو علمه.. وقد نبذ الإسلام حين جاء كل دعاوى الكهانة والسحر والتطير والاستقسام بالأزلام والتعويل على كل ما ليس له أصل في الشرع وتناغم مع العقل؛ وقد حذر في أكثر من موضع كل ما يتعارض مع حكم العقل وافتراءات وادعاءات علم الغيب، إلا ما قرر النقل وقطعت بقوله الشريعة ” سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)”[الأنعام].

حين يعمل العقل في التكيلف في حدود ما يسرحه النقل فإنه ينتج علما وخيرا ونفعا، وحين يشطح العقل في تناول التكليف ويعطي لنفسه فوق قدر ما سمح الشرع له فإنه ينتج شططا وفرقا وشيعا كمثل ما حدث من اختلاف الفرق الإسلامية في الصدر الأول، وإن دل هذا عن مرونة هذا الشرع وقوته ومتانته والذي لم تنل من تأصيله اختلافات الفرق وتفرقات الشيع، والانزياحات العقلية عن دائرة النقل الصحيح الصريح.

مراجع المقالة:

  • مقام العقل في الإسلام . د. محمد عمارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى