يوسف أبو الخير: إما مُحرّر إلى المنافي وإما منفيّ في وطنه.. وفي الحالتين قهر وسجن

أمير مخول | فلسطين

 

عاد إلى البلاد حالما بأن يعيش شيخوخته فيها ويكتمل حلمه حسب قوله في أن يُدفن بعد عمر طويل في الوطن في عكا قريبا من بلدته الأصل السميرية التي دفنوا بيوتها بالأرض كي يقيموا مستعمراتهم، ويكفينا مَن دفنوا في المنافي وفي قبر اللجوء.

يوسف أبو الخير المهجّر في جيل الخامسة، والمنفي في جيل الأربعين والأسير في جيل الرابعة والسبعين والمنفي مجددا في السابعة والسبعين، عاش شبابه في البلدة القديمة في عكا وعمل في منجرته، إلى أن أُعتقل في العام 1969 بتهمة الانتماء إلى خلية فدائية قامت بسلسلة عمليات في حيفا ومنطقتها، وهي الخلية المشهورة باسم “مجموعة عكا 778”.  أصدرت المحكمة الإسرائيلية عليه حكما بالسجن مدى الحياة والمؤبّد خمس عشرة مرة.

في العام 1983 أطلق سراحه ضمن صفقة تبادل الأسرى الكبرى، وقد تضمن “العفو” الذي منحه إياه قائد الأركان الإسرائيلي آنذاك موشي ليفي، منعه من العودة إلى البلاد وفي حال عاد إليها سيواصل الحكم إياه في السجن. مثل هذا العفو يكتب بحروف بالبنط الأصغر الممكن، ولا يزاحمها في الحجم سوى حروف رسائل الأسرى فيما بينهم على وريقة تتحول إلى “كبسولة” كي تصل عنوانها بأمان، لكنا هنا بصدد أحرفٍ الهدف منها أن لا تصل إلى عنوانها، بل تبقى ذخيره يستخدمها قضاء إسرائيل لتبرير أية خطوة بحق الفلسطيني متى تطلّب الأمر.

منذ أن حط المشروع الصهيوني في بلادنا فلسطين، لا يوجد ملفات مغلقة، بل كل ملفات الصراع مع شعبنا تحت الاحتلال هي ملفات مفتوحة ما دام المستهدف حيا، وليس مثل الحروف الصغيرة لإخفاء النوايا، وليس مثل القضاء الإسرائيلي للقضاء على كل حق فلسطيني.

في أوائل ايلول من العام 2017 وفي يوم قائظ جاءني للزنزانة أحد الأسرى العاملين تطوعا في الساحة والمرافق (المردوان) ليخبرني عن “شخص كبير السن من فلسطينيي الـ48 يرتدي بدلة” جاءت به إدارة السجن، فأدخله الأسرى الى الكانتين ليستريح قليلا، حيث جهاز التكييف المخصص للحفاظ ما أمكن على محتويات الكانتين.

خرجت للتو، لألتقيه لأول مرة. وبعد التعارف جلسنا وكان الإرهاق وصخب الصدمة طاغيين عليه، لدرجة أفقدته ذاكرته بشكل مقلق. ناهيك عن كونه مسنّا وقد مرّ كما علمنا لاحقا بعملية قلب مفتوح وتعرض إلى جلطة دماغية قبل فترة وجيزة، وما كان ينقصه سوى الصدمة الرهيبة.

حدّثنا بأنه وبعد إجراءات مطوّلة مقابل السفارة الإسرائيلية في أثينا وتوكيل محام من البلاد وآخر من اليونان ليقوما بالإجراءات، فقد سلمته السفارة الإسرائيلية تصريحا بزيارة البلاد، مع العلم أن جواز سفره الإسرائيلي قد ألغي في العام 1983، ولم يحصل على جواز سفر يوناني ولا مواطنة؛ بل تصريح إقامة. حصل على جواز سفر فلسطيني لا يستطيع القدوم به إلى البلاد.

أضاف أبو الخير بأنه استعد على عجلة بالسفر إلى البلاد بعد أن هنّأه مسؤول التأشيرات في السفارة الإسرائيلية بحصوله على التصاريح المطلوبة، وبعدها بيومين وصل مطار “بن غوريون”.  حين وطئت الطائرة أرض المطار حتى طفح منسوب الفرح الحزين، فقد وصل بعد خمسة وثلاثين عاما إلى فلسطين.

وما إن نزل من درج الطائرة وهو بهذا الصخب من مشاعر العودة، ليتحول الحلم الجميل بلحظة إلى كابوس لم يحلّ حبكته حتى يومنا هذا وربما لن يحلها مستقبلا. اقترب منه رجلا أمن وفصلاه عن زوجته ومحاميه واقتاداه إلى الاعتقال في مركز شرطة قريب ومن ثم إلى “لجنة الإفراجات المبكرة الخاصة” التي اجتمعت وأقرت على الفور إعادة الحكم الأصلي القاضي بخمسة عشر مؤبدا. للتنويه، فإن لجنة الإفراجات تحمل نقيض تسميتها عند الحديث عن أسرى فلسطين وذلك لكون المستعمِر يحمل نقيضنا. وعلى شاكلتها مثلا توجد “سلطة تطوير البدو في النقب” والتي جلّ عملها هو التطهير العرقي لعرب النقب واقتلاعهم وتهويد المكان، ولجنة الإفراجات لا تعرف سوى منع الإفراجات إلا إذا اضطرت الدولة للإفراج عن أسير.

 كل محاججات يوسف أبو الخير والتأكيد أنه حضر إلى البلاد بتأشيرة من سفارتهم في أثينا والتي عملت مقابل وزارة الداخلية لم تشفع له، بل إن “جريمة العودة إلى الوطن” فيها من الخطورة باعتبارات إسرائيل التي لا تريد فتح الباب الموصد أمام العودة، وهي المعني أيضا ودائما بعدم رؤية ضحاياها، لأن الضحايا في اللجوء والمنافي هم البيّنات الأكثر دلالة على الجريمة الكبرى – النكبة.

رغم تراجع دور الحركة الأسيرة كما تنعكس عليها الحالة الفلسطينية الراهنة البائسة، فلا تزال قيم وأخلاقيات التكافل والمساندة والدعم المتبادل قوية وطاغية. استقبل الأسرى أبا نضال بحفاوة كبيرة، لكنه كان لا يزال في مساحات الصدمة.

بعد حديث أولي في تلك اللحظة وتلاه جلسات وأحاديث في الأيام الأولى له في السجن، لفت أبو نضال انتباهي حين قال لي: إنه نسي كل شيء حتى اسم الشارع الذي يسكن فيه منذ ثلاثة عقود وأكثر.

ألا إنه وبصفته أسيرا سابقا أدرى بشعاب أجهزة القهر، وهو يدرك بأنه لن يساعدك أحد في السجن سوى الأسرى وبالأساس بالاعتماد على ذاتك. ولو ترك الأمر لإدارة السجن والعيادة لكتبوا له وصفة بتناول “الحبة الصفراء” المشهورة وهي حبة منوّم صفراء اللون لتناولها كل مساء وهكذا تهدأ الحال، وللحقيقة تهدأ حالهم لا حال الأسير. إنهم لا يعالجون الصدمات وتداعياتها بل يبيتونها لليوم التالي وهكذا كل يوم، وليس مثل المنوّم علاجا للا-علاج.

في أحد الأيام راودتني فكرة أن أقوم معه بجولة في عكا وأزقتها، ربما يعود إلى هناك حتى ولو على متن جولة افتراضية. سألته عن المنجرة، فقد وصف لي المكان دون ذكر اسمه، وبدأنا نمشي من هناك إلى الميناء ومنه إلى الفنار وعودة إلى جامع الجزار مرورا بالسوق والخانات والمسامك والملاحم والمطاعم القديمة وفرن فخري البشتاوي المناضل العكي التاريخي.

رويدا رويدا بدأت الذاكرة تستعيد حيويتها وتنفتح خارطتها، وبعد جولات قدته أنا فيها، بدأ يقودني في جولات أخرى لتاريخ عكا ليأخذني إلى المنزل المتواضع الذي سكن فيه وهو طفل وإلى حي الشيخ عبد الله ووصلنا شمالا إلى السميرية التي نزحت عائلته عنها قسرا ومهانة. في سرده لمساحات الذاكرة خطّت كلماته مساحات مكان وارتسمت خارطة بلد.

تفتحت الذاكرة ومعها تفاعله الجميل مع الأسرى في قصص الحياة الاعتقالية من سنوات السبعين، والملفت أن غالبية الأسرى الذين يجتمعون حوله في ساحة القسم هم الأسرى الشبان حديثي العهد النضالي والاعتقالي. يحكي لهم قصص فلسطين وحكايات السجون في سنوات الستين والسبعين وكلهم آذان صاغية. كما شكّل حضوره الاعتقالي ظاهرة اجتماعية، إذ أن الأسرى الشباب يرون أحيانا بالأسرى القدامى وكبار السن بمثابة الأب، لكن أبا نضال كان لهم بمثابة الجد، هكذا تعاملوا معه بالدلال والإكرام وكان تعامله وديا وحنونا وبمشاعر معزّة الأحفاد. وكان في طيات ذاكرته المستعادة كنزٌ من الأحداث والتاريخ يشركهم بما فيه من قصة.

فاخر بزوجته وشريكة دربه الانساني والكفاحي، المتاضلة فاطمة النمر ابو الخير، وكم كان يكثر الحديث عنها ويمتدحها ويؤكد فضلها عليه حتى تنزل دمعة ويتوقف عن الحديث، حتى تمر عاصفة الصخب. حضرت فاطمة في كل احاديثه وشحن نفسه بالمعنويات من حضورها الثابت.

رغم سنّه المتقدم أصر ان يعالج جسده بالرياضة وان يكون يوميا اول الاسرى في الساحة ويجري بسرعة وبالتدريج انتقل من المشي لدقائق معدودة الى الجري السريع لساعة كاملة وغالبية الاسرى لا زالوا نياما.

لم يعرف ابو نضال اسيرا من الشبان في ضائقة نفسية الا وسانده، ولم يحتمل ان يرى اسيرا من الشبان في ضائق مالية مالية الا وسعى لمعالجة الامر ومتابعة قضيته حتى تجد حلها. ولم يقبل ان يبقى شبان فلسطينيين أسرى لم يتعلموا الا صفوف قليلة في المدرسة الابتدائية وخرجوا الى الحياة أقرب الى الامية والى الشحّ السياسي والثقافي. درج يجلس معهم ويقدم لهم ما عنده على شكل قصص من الحياة والتثقيف السياسي وتعليم الكتابة الاولية، وكان يطلب مني تنظيم دورات لمجموعات اخرى معنية في اللغة العربية والتعبير وكذلك في التثقيف السياسي.

هذا الحنان يفتقده الاسرى فلا حنان في السجون وفي الحياة الاعتقالية، الا ان ابا نضال كان لديه الكثير من ذلك. في المقابل لا بد من تقديم التحية الى الأخوة الاسرى القدامى  في قسم نابلس سأذكر منهم المحكومين مدى الحياة: وضاح البزرة وراسم حسين ورامي نور ورائد عبد الجليل وفواز بعارة ورائد ابو سريسي وخيري سلامة وعارف سمحان وموسى سروجي واسرى سجن الجلبوع قسم نابلس على ما قدموه من رعاية واحتضان لابي نضال وعلى مدار الساعة. هيئة شؤون الاسرى والسفارة التركية في فلسطين والسفارة الفلسطينية في اليونان والنائب ايمن عودة، ودور العائلة الحاسم لشريكة دربه فاطمة النمر ابو الخير واخيه وهيب وحفيده مراد والعائلة في توفير كل متطلبات الاجراءات في البلاد والخارج.

غادر يوسف ابو الخير السجن مباشرة الى المطار، وفي مراحل الصعود للطائرة قد يكون التقى برجلي الامن اللذين اقتاداه قبل ثلاث سنوات وثلاثة اشهر من مساحات حلمه الى ضيق السجن، وهذه المرة فإنّ حضورهما او حضور غيرهما من ذات الجهاز، لضمان اقتياده الى خارج الوطن.

حرروه من السجن مرتين كي يطردوه من وطنه ومن بلده مرتين، مرة في العام 1983 والتي كانت بالنسبة له انتصارا، والثانية قبل ايام في العام 2020 والتي تلفها الخيبة، وفي السجن منفى وفي المنفى كثير من السجن. لن يتيحوا له ان يطأ ارض عكا وان يتنفس من عبق بحرها ولا ملامسة أسوارها والسير في أزقتها ولا من صخب اهلها وطيبتهم، حتى ولا زيارة لوداع مدينة. كل هذا يضاف الى الاقتلاع الاول من السميرية.

يحمل فرح الخروج من السجن وحرقته على من وقفوا يودعونه وطما وصفهم في محادثة هاتفية بعد الفرج “يكبرون سنة بعد سنة وفسحات الفرج لا تبدو قريبة” ، انه يحمل عبء الحسرة ويحمل حلم العودة والانتصار ويغادر الى المنفى في خريف العمر، لكن في حمله للحلم حماية له يحميه بقناعاته ويحميه بحنان الجدّ، حلم إن لم يتحقق الان سيتحقق بعد حين.. وان لم يكن له فالى الاحفاد والاجيال الكثيرة التي لا تريد اوطان المنافي واللجوء عوضا عن بيتها، مهما طال أمد الحلم. وكما كتبت حفيدته “حتى لو نفي يوسف خارج أرض الوطن الغالي..اولاده واحفاده لن يغادروا بلدنا الحبيب. سنبقى هنا”

هذه حال يوسف أبو الخير الأسير المحرر إلى المنفى المؤبد.. فصل من حكاية فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى