العقل و سُنَّة التَّنوّع والاختلاف

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

 

ما زالت يد القدرة الإلهية تبهرنا بهذا التنوع والتعدد والتفرد في الخلق من البشر والأمم من الطير والحيوان والدواب والنبات وغيرها من الأنواع والأجناس، ثم تأتي بعدها على التنوع في الجنس الواحد فتعدد صفاته وأشكاله وألوانه وأطواله وأحجامه، مع ما له من الصفات والخصائص الجامعة المتشابهة، ثم الإبداع في كل وحدة بذاتها من حيث ما ركب فيها.. ثم يذكرنا القرآن بكل هذا ليقف بنظرنا على تجليات الخالق فيه، لئلا يصدق فينا القول: “وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)”[يوسف]..

ولا تكون هذه التذكرة للتفكه والتعجب، إنما هي أمر متضمن لاستقراء الآيات والتفكر في هذه القدرة التي أبدعت وأروعت، ثم التوجه بالقلب والعقل إليها من صرف العبادة لهذا الإله الذي له الخلق والأمر، وقد من علينا بالعقل الذي أدرك وأوعى من الكون وجماله ما أوعى، فجاء ذكر ذلك في قوله: “وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)”، ثم هي”حدائق ذات بهجة”، “والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه” ، “والشمس والقمر والنجوم”، “وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان”،  “والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة”

ثم جاء الإنسان له هذه الخصوصية والتفرد بالعقل والتكليف والاختيار ليستوجب تعدد ذكر الخالق له بما من عليه من نعم الظاهر والباطن، فمن اختلاف الظواهر والأشكال والألوان والألسنة “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)”[الروم]؛ هذا الاختلاف الذي جعله الله آية من آياته، ليأمره فيها بالتوقف والتأمل لمن هم أهل لذلك، وهم (العالمين) أي أهل العلم والبصيرة، وهي آية تحمل في طي معانيها دلالة الخلق الذي تنوع بهذا العجب، وقد تحرر من التنميط والتأطير، مما يبطل في معناه دعوات الصدفة والطبيعة التي إن طرحت دعواها فهي تحمل بطلانها.. إذ لو صحت لجاءت على وجه متنمط متشابه غير متعدد ولا متنوع..

 ثم تأخذ بيد الناظر إلى ما التفكر فيما فيها من آيات أخر من الاختلاف والتنوع في الداخل كما الخارج، في (العقول والنفوس والقلوب والميول، والأهواء والمطامع والمطامح)؛ كما تجلت في الظاهر من الأشكال والألوان.. هذا الاختلاف في الدواخل البشرية من تناكر الأرواح وتنافرها وتآلفها، وائتلاف القلوب وتباغضها، ثم هذا الخلق العجيب الذي أعجز أصحابه في تنوعه واختلافه، وعلمه وجهله، وقوته وضعفه وهو (العقل)!!

ثم إلى تنوع الحظوظ وتفاوتها من درجات الحياة وطبقاتها من النعم الظاهرة والباطنة للاختبار، والتي قسمتها يد القدرة بالحكمة بين الخلق، فمنحت ومنعت، ورفعت ووضعت، ووسعت وقدرت، وأغنت وأقنت: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)”[الأنعام].. “أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)” [الزخرف]..

 ثم يجيء هذا الاختلاف في العقول في استقبال منهج الله، ومتابعة الفطرة أو مناهضتها والانقياد والإذعان لدلائل الشرع المطابقة للفطرة أو الاختلاف عليها.. وهذا كله أو بعضه مما يستدعيه الطبع البشري الذي خير بين الاختيار، أوالتكليف القسري، وبين الشكر والكفر، والطوع والكره.. فاختار حمل الأمانة، فجاء هذا الاختلاف تبعا لما اختار العقل من حرية الاختيار، وقد كان أولى به ألا يختلف في أمر الخالق، ولكن شاء الله ذلك ولم يأمر به.. فكان كما ذكر الله وهو أعلم بمن خلق: “وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)”[يونس].

هذا الاختلاف الذي يثبت طلاقة القدرة وحكمتها حين جعل للعقل البشري اختيار يسترعي النظر والتوقف من العقل ذاته.. فهذا الخلق العجيب (العقل) قد جعل الله من تكوينه وإبداعه آية، ثم جعل من تنوعه واختلافه آيات، حتى جاء متفردا لكل إنسان كما تنفرد بصمته الوراثية بأكملها لا تشبه سواها.. ثم يجيء كذلك متفردا لا يطابق الفهم الفهم ولا العلم العلم ولا الفكر الفكر، ولا يتوافق في مسألة كونية ولا شرعية إلا أن يكون بها علما قطعيا حق عليه الاقتناع به، والتسليم له حسب قوانينه الفطرية التي طبعت فيه، أو علم جاء من الوحي قطعي الثبوت والدلالة، فوجب عليه التسليم.. وما عدا ذلك فهو منطلق تغلي بداهته في كل أفق وعلم لا يوقفه إلا محدودية الخلق والطبع التي جبل عليها، وإن كان يشطح أحيانا ليتجاوز حدود مملكته ما قد يقربه من حتفه، أو يثوب إلى هديه ورشاده.

قد ينتج الاختلاف سعة وعلما وفتحا حين يكون فيما أتيح للعقل الإبحار فيه والتحسس والنظر والسعي، كما حدث مما أنتج العقل من علم الكون والحياة، وما بذل فيه حشاشة فكره وعصارتها من علم النفس والروح والعقل وعموم الإنسان، فهذا كله محمود مطلوب، ثم ما ذكر في مقالات سابقة من الاجتهاد والاستنباط فيما استشكل أو اختلف فيه من فروع الدين.. إذ كل ذلك مما أمرت به أو أباحته الشريعة وأتاحت الخوض فيه للتبصر والعلم.

وقد وردت لفظة الاختلاف بتصريفاتها في القرآن على هذا النحو: يختلفون (عشر آيات)، اختلفوا: ثمان آيات، اختلف: آيتان، مختلفين: آية واحدة، اختلاف: ست آيات.. وفي ذكر بعض آياتها دلالة يدور معظمها حول الاختلاف حول الكتاب والعلم المتلقى من الوحي عن الله، وما استخرج من الفهم المتعدد من هذا العلم .

“كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)”[البقرة].

“إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)“[آل عمران].

 “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)” [هود].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى