مجزرة الجريمة المنظمة في مجتمعنا الفلسطيني لها مواصفات مشروع دولة

أمير مخول | حيفا – فلسطين

 

عدد القتلى السنوي ضحايا الجريمة المنظمة في المجتمع الفلسطيني في الداخل يضاهي سنويا حجم مجزرة رهيبة. تأخرنا كمجتمع بقواه السياسية والمجتمعية بالاعتراف بالجريمة المنظمة كي نتعامل معها كجريمة منظمة ونواجهها على هذا الاعتبار.

في بدايات العقد الأخير كان الخطاب السائد هو الخطاب التربوي والوعظ الاخلاقي والديني، ظنا بأن الامر ممكن حله بـ”التخجيل”، ثم اكتشفنا ان الجريمة مثل الدول لا تخجل، بل ان الوضع تفاقم.  ثم انتقلنا للحديث عن أعمال قتل وعنف وفي السنوات الاخيرة عن جريمة منظمة. لكن الصورة اتضحت أكثر فأكثر. وقد تنكشف القوى الحاكمة المعنية بها بعد عشرات السنين حين تفتح الدولة ارشيفاتها ووثائقها المتعلقة بالمرحلة الراهنة التي نعيشها.

المقصود في الجريمة المنظمة ليس مستوى التخطيط لتنفيذ عملياتها، وليست تنظيما واحدا او نمطا واحدا، وانما كونها بنية متكاملة لمنظومة لها سطوتها، تتغلغل في كل مناحي الحياة وتعتاش من عصب حياة المجتمع. انها تشبه الى حد ما الفساد البنيوي في عدد من الدول والذي عمليا يغزو مجمل الجهاز الحاكم واقتصاد البلد وينتقل الى المجتمع بمؤسساته ويتحول الى جزء من الثقافة المهيمنة. كما يستحوذ على حصة جوهرية من الصالح العام الجماعي للسكان وللدولة وعندنا للإدارة المحلية. وهناك نموذج كارتيلات المخدرات في المكسيك وامريكا الوسطى والجنوبية، او طغمة ملوك المال (التايكون) في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

الجريمة المنظمة هي أبعد من أن تكون مجرد سطوة، بل هي ايضا بنية اقتصادية وترهيبية، ولها نخب وتدخل اجتماعي وسياسي بلديا كان أم قطريا. وكما يجري تبييض للأموال، ليس مستبعدا ان تسعى نخب الجريمة لتبييض جريمتها ودمويتها من خلال دخولها المعترك السياسي وتنويع ادوات السطوة.

من غير المبالغ فيه، القول بأن ما نواجهه ليست قوة جريمة منظمة غير محمية او مسنودة او موجّهة. وواضح انها تحولت الى التحدي المباشر الأكبر والذي يستهدف المجتمع كمجتمع بعلاقاته ومنسوب تماسكه وبدوره وبخوفه وترهيبه، انها جريمة منظمة أقوى من المشاركين فيها. فهناك المجرم المباشر الذي يضغط على الزناد وهناك المجرم الاكبر الذي يتيح له الزناد، الاول يستفيد منها ماديا والثاني سياسيا واستراتيجيا. فكيف لنا ان نفسر ونشرح لأنفسنا حقيقة انّ غالبية رؤساء منظمات الجريمة الاسرائيلية يقبعون في السجن، بينما امثالهم العرب احرارا!!

القضاء على الجريمة المنظمة ليس بالأمر المضمون وليس بمسألة فورية، بل وللأسف سترافقنا، ويبدو أننا لا نملك القوة الذاتية للقضاء عليها، لان السطوة الوحيدة الاقوى من الجريمة هي سطوة الدولة. وهذه السطوة لغاية الان ترى بالجريمة كما بالتعريف الشهير للحرب بكونها استمرارا للسياسة بأدوات أخرى. في المقابل ورغم ما ذكر، هناك مواقف معينة تشكل فيها قوة الجماهير المنظمة سطوة على سطوة الدولة كي تتراجع الاخيرة عن سياستها. وهذا ما يجب أن لا يغيب عن جماهير شعبنا ومؤسساتها القيادية.

لا نريد ان نرى مجتمعا يائسا، مجتمعنا يملك طاقات نيّرة هائلة، ولا نريد ان يصيب الاحباط الاجيال الشابة وتهاجر بسبب الجريمة الى خارج البلاد، ولا ان تضطر للهجرة الداخلية من بلداتها تفتيشا عن الامان وخوفا من سطوة الجريمة على المجتمع. الخلاص الشخصي والعائلي هو حق اساسي وشرعي جدا لكل المعنيين والمعنيات، لكن دور المجتمع هو السعي لتوفير الضمانة للأمان بين صفوفه وفي كل موقع. وليس مثل المبادرات المحلية التي تحرّك المؤسسات القيادية وتطلق الصوت الجماعي. ويبدو هناك حاجة الى لجان متابعة محلية في كل مكان، تشمل مركبات لجنة المتابعة العليا وتشمل كل القوى والعناصر المجتمعية المعنية. اي هناك حاجة الى مركزية ولا- مركزية لجنة المتابعة في آن.

بالإمكان انتقاد المجتمع وقياداته الجماهيرية والمحلية والبرلمانية والسياسية والاهلية، وهذا شرعي وصحي وضروري، وهو ناتج عن أمل بمجتمع أفضل، لكن هل المسألة الجوهرية هي حقا مسألة تقصير؟ وهل هناك فعليا وبصدق ما يمكن لرئيس البلدية أو عضو الكنيست أو لجنة المتابعة أن يقوموا به وبسبب عدم قيامهم به يتسع وتتعمق أثر الجريمة المنظمة ونطاقها؟.

اعتقد انه يوجد تقصيرات وقد لا تكون بمقدار الجهود التي تبذل، بل وهذا مرتبط اولا بعدم احتكار معرفة محاربة الجريمة بالمستوى القيادي، وبالاستعداد الجماهيري للمشاركة، والامران مترابطان. فما من شك في انه لا تزال في مجتمعنا الكثير من المناعة الداخلية، وهو ليس حطام مجتمع، فقد مررنا هذه الحالة قبل سبعين عاما ولن ندعها تعود، انه مجتمع طموح وفيه كمّ هائل من الطاقات لكن صوت الجريمة المنظمة عالٍ جدا.

محاربة الكورونا كنموذج لمحاربة الجريمة

سارعت الدولة إلى التدخل في مواجهة انتشار الكورونا الواسع نسبيا في البلدات العربية لأمرين أساسيين، وهذا ما اعتمده الخطاب الاسرائيلي الاعلامي والسياسي المهيمن: أول الامرين هو لأن العدوى تنتقل الى كل المجتمع الاسرائيلي ولا تنحصر محليا، والثاني لان رفع منسوب العدوى في البلاد ينعكس على تدريجها “دولة حمراء”، بما يعنيه ذلك من اسقاطات على الاقتصاد والناتج القومي، ولاحقا تدريجها الائتماني عالميا. بناء عليه خصصت الدولة طاقات لمحاصرة البلدات العربية واغلاقها، ومع هذا لم تطور البنية الطبية في هذه البلدات.

لكن الدرس بالنسبة لنا ان نقاط القوة عندنا هي التأثير على رتابة الحياة الاسرائيلية عامة – وليس بالضرورة على المواقف، لأننا لسنا بصدد سوء تفاهم مع الدولة ولا من قبلها – وعلى متابعة ما بدأ قبل عام على شاكلة مظاهرة مجد الكروم واغلاق مسار السير الرئيسي في تلك المنطقة والشمال. او مسيرات السيارات وإغلاق الطرق الرئيسية. لكن من المهم ايضا عدم الركون الى نمط عمل واحد بل تعدد الانماط لزيادة الاثر.

وإذا كانت إسرائيل تخشى على التدريج الائتماني اقتصاديا فلا بد من أن نجرب مناحٍ جديدة أو غير جديدة، وبفاعلية عالية مثل طرق ابواب منظمة الدول المتطورة التي زاحمت اسرائيل للانضمام لها، والتي لا تزال تقاريرها تملك فاعلية ملحوظة. وهذه المنظمة تراقب ايضا انعكاسات سياسات اسرائيل على الفلسطينيين المواطنين فيها ومدى معالجة مسائل الفقر والتشغيل والجريمة المنظمة هي انعكاس لسياسات الدولة في هذا السياق، وليست مسألة تعود الى المواصفات الوراثية للمجتمع الفلسطيني، كما يتلذذ العنصريون حين يلقون المسؤولية على الضحايا ويحررون سياساتهم الاجرامية وقوتهم كدولة من المسؤولية.

في حالة الكورونا كما في حالة الجريمة تريد الدولة من الاجيال الشابة ان تنضم الى الشرطة وأجهزة الأمن، واعتقد من الوجاهة ان نطرح في مواجهة هذا المطلب الاجرامي، مطلب الادارة الذاتية لحماية أنفسنا كمجتمع من سياسات الدولة والجريمة المنظمة.

لكن لدينا أيضا نموذج القرى الدرزية حيث الخدمة إلزامية حسب القانون الاسرائيلي فهل الوضع فيها أحسن، وهل “عناية” الدولة أفضل؟ ناهيك انه وللأسف لا توجد بلدة عربية إلا ويوجد فيها بعض المتجندين في الشرطة والجيش الاسرائيلي فهل هذا ما سيجعل الدولة رؤوفة ومبعث حنان او أقل عنصرية؟!

كما في حالة الكورونا لا مكان لعدم الاكتراث والنتائج منوطة ايضا بسلوك كل فرد وتحمله او تحملها للمسؤولية تجاه الذات وتجاه المجتمع.

ملاءمة التوقعات

لن تنتهي الجريمة بين ليلة وضحاها، بل هي منظومة باقية في المرحلة الراهنة، وقد تسعى لتوسيع نطاقها وقد تنجح في توسيع نطاق اقتصاد سياحة الجريمة على الخط المفتوح من الامارات ودول الخليج ومع المغرب ايضا. كما قد تسعى لتوسيع نفوذها السياسي والبلدي داخليا.

في المقابل رغم المخاطر الداهمة إلا أن المجتمع الفلسطيني في الداخل ليس مجتمعا ضعيفا ولا مدمّرا، ولا يزال يملك قدرات وتماسكا لا يجوز الاستهانة بهما او اتاحة المجال للإحباط أن يتحول إلى يأس.

نحن بصدد تحدّ مصيري ومعركة طويلة الأمد تحتاج إلى التوفيق بين العمل القطري المركزي والمبادرات المحلية والقطاعية على تنوعها، وان يبقى منحى العمل المركزي هو خلق وضع وحالة حراك لا تتيح للدولة ومنظومتها العنصرية ان تبقى على نهجها.

أعود واكرر ما كتبته قبل أيام: حين نكون على حافة هاوية الأزمة، ففي وضعيتنا لا نستطيع اعتبار السقوط في الهاوية خيارا، بل دورنا جميعا مدّ أيادينا لتجاوزها والانطلاق قدما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى