مُدنُ العَودة..يوم المهاجر العالمي

المتوكل طه | فلسطين

 

(حيفا لها المُبتدا في الرّجوعِ، ويافا لها خَبَرُ العائدين)

///

سأبدأُ ..

لكنّني قد بدأتُ قديماً من الحُزْنِ

أو من غموضِ النزيفِ

على تُربةِ النازحين.

وقلتُ لهاجَر:

يا طفلةَ الموتِ كوني لنا

في الشروقِ، كما نشتهي، عودةً للبلادِ..

وغنيّتُ للهاتفين.

فكيف سأبدأ ثانيةً

والدّخانُ دمٌ ماطرٌ في الغروبِ

المؤدّي إلى القدسِ،

أو يجمعُ القريةَ التي حرّقوها

بِحُمّى مجنزرة القاتلين؟

///

هناك على كتفِ الليلِ

قام المؤذّنُ كي يوقِظَ النائمين،

لكي يدخلوا في الصلاةِ

إلى سَجْدة النارِ،

أو يُوقِفوا السحجاتِ التي انفتحت

في الجبين.

 

سلاماً، إذاً، يا قتيلاً

له ألفُ وجهٍ أو اٌسْمٍ،

وفي صدره ألفُ جرحٍ..

إلى أن تَغَضَّنَ وجهُ الذبيحِ،

وقالوا هو الأوّلُ

العاشرُ

الألفُ في مسْلخِ الغاصبين.

وهذي البيوتُ لأحزانِ أيتامها الضائعين،

وللثاكلاتِ اللواتي عقدْنَ الجدائلَ

للغائبين.

///

كأن ثيابَ النبيّ الذي قطّعوه

هنا، بين حيفا ويافا، موزّعةٌ في الحقولِ،

فتنبتُ أضرحةً كالعقيقِ،

وزفّةَ نارٍ لوردِ الحريقِ

وطوفانَ مذبحةٍ في الطريقِ ..

فينفتحُ البرُّ أقنيةً للدماءِ،

فتجري،

ويُصبحُ هذا المدى دامياً كالجَنين.

ويرضعُ من ثديِ مقتولةٍ،

فارقصي يا مناديلَ جدّته، في الجُنونِ،

اصْرخي في الجحيمِ..

عسى أن تردَّ البلادُ على الداخلين.

ولكنّها وَحْدَها في السواحلِ!

لا جَرَساً حولَ زنّارها..

قد تكون النهايةَ

فالماءُ ميناؤها للغيابِ،

وجنيّةُ الموجِ عادت إلى أخْذِهِهم للبعيدِ..

ولكنّها سوف تمشي على درَجِ النّخلِ،

بأبنائها المُرْسَلين..

وتحضنُهم مثل طفلٍ ذبيحٍ،

وَتَسْطعُ أثوابُها الناقعاتُ،

وتذْرعُ أبوابَ عكّا مع الغاضبين.

فطوبى لأقواسها العالياتِ،

لأبوابها المُشْرَعاتِ

لأقْبيةِ الوالدات

لِقُبَّرَةٍ في الجهات

لكلّ مجرَّاتها المائسات

على حَبَقِ البَحَرات

لأسوارها في الحياة

وأسوارِها في الممات

وأدمعها في الطحين.

سلاماً لمليون يافا بحيفا،

ومليون موقدة للبلادِ،

من الموجِ حتى القباب المضيئة

في قلعةِ الخالدين.

///

ويافا خريطُتنا للبقاءِ،

وصورتُنا في الأغاني،

وآلهةُ الآسِ،

سجّادةُ الضوءِ،

والشِعرُ في حَمْأةِ النازفين..

وحيفا البدايةُ،

كُوشانُ جَدّي،

وجَمْرُ الدّوالي ،

وماءُ التماثيلِ،

والبرْقُ في ثوبها المدرسيِّ،

وتعزيةٌ للسماءِ،

وأغنيةُ اللهِ للمُنْشِدين.

///

وفي البحرِ مجنونةٌ للسياجِ،

أو غابةٌ تجهشُ الريحُ فيها على طائرٍ

لا ينام،

جناحاهُ ظِلُّ القوافلِ والراكبين.

في الفجرِ يهدي إلى الشمس أغنيةً من حريرٍ،

وفي الليل يبكي على وحشْةِ التائهين.

وفي الدارِ عشُّ اليمامِ

الذي كان نجمُ السماءِ يشاركه فضّةَ البيت

أو زَغَبَ الحالمين.

وفي الحوشِ أرجوحةٌ للضفائرِ،

تعلو وتعلو..

إلى أن تُضَمِّخَ في الَغيْمِ أعرافَها الشَّهدَ،

أو تنعفَ البْدرَ للآمنين.

///

وفي البيتِ سيدّةٌ ترقبُ البابَ

حتى يدقَّ عوارضَه سيّدٌ

قيلَ قد نَخَّلَتْهُ الرصاصاتُ،

في دربِ عوْدَتِهِ،

فارتمى، غارقاً، بين أصحابهِ الغارقين.

وفي كلّ سطحٍ تَرى شبحاً

يُطلقُ الخوفَ في كل فجٍّ،

فيسّاقط الوردُ في حضنِ أصحابه الطيبّين.

ويمضون في زفّةِ النهرِ

حتى تفيضَ الدروبُ، وتبدأُ

أعراسُ مملكةِ العاشقين.

///

وخارجَ يافا وفي قلب حيفا ترى الوحشَ

يحتال ثانيةً

كي يُمَرِّرَ سفّودَه في الغزالِ،

وليس له غيرُ أنْ يقتلَ الأرضَ قاطبةً

إنْ أراد لأنيابهِ اللّحمَ،

هذا الذي عَلّم الموتَ أنْ يشربَ الروحَ صافيةً

من ينابيع أطفالِها، ثم يمضي

ليحتلّ أشجارها من تضاعيفِ أصحابها المُتعبين.

وما عاد يذكرُ أنّ له بقعةً في الحريقِ

فَعَاثوا بها وَاستكانَ،

وكانَ الهشاشةَ والذلّ في رِبْقةِ الصّاغرين.

///

وفي القدسِ قاطرةٌ تحمل الشهداءَ

إلى حقلِ جنّتهم،

ثم تأتي القواطيرُ كي تمضغَ الجثثَ الرّانخاتِ!

هو الوحشُ في مَعْدنِ الحرفِ

لا لن يرى غيرَ صورته في البقاءِ

على وَحْلِ مذبحةٍ إثْر أخرى..

إلى أن يتّمَّ له الوَهْمُ في لَعْنَةِ الميّتين.

///

وفي القدس، أندلسُ العُشبِ،

كانَ لنا الذَّهَبُ الضوءُ

واللبنُ الحلوُ

والقهوةُ المُشْتهاةُ

وما أذهلَ السِّحْرَ والعابرين.

///

وحَطّ الغرابُ على البابِ،

مدّ خوافيه في كلِ وادٍ

فَماَل بها كوكبٌ لا يرى كلَّ هذي الأخاديدِ،

أو لا يرى كلّ هذي المدافنِ في أبد الداهرين.

ويافا الذبيحةُ طفلتُنا في الحكايا،

وما تأكل الغولُ من لحمها كالعجين.

وحيفا الروائحُ في ليلةِ الزنجبيلِ

إذا شفّ نايُ الغريبِ، وفحّ الحليبُ

على فروةِ الحالمين.

ويافا المنادي على الناسِ:

يا أيها السامعونَ إذا مرّ بدرُ التمام بِكم

فاعلموا أنه النوُر قد عادَ،

والليلُ ماضٍ إلى عتمةِ الغابرين.

///

وحولَ المدينةِ تبكي المدائنُ

أو تستفيقُ القرى والقلاعُ

أو السوقُ والسيفُ ..

والخيلُ في غزّةَ المجدِ

جامحةٌ كالسّجين.

والصمتُ في مِعْطفِ الصّمتِ

مرَّ على النَّحلِ في القدسِ،

لكنّه خَبَّ مُبتعداً في الطنين.

فيا قدسُ!

هذا النّداءُ الرخيمُ

أو النّايُ والرّسمُ

والرّعدُ في الشالِ

والسُّكَّرُ المِزُّ

والبابُ والحيُّ

والظلُّ في الدمعِ

والصوتُ والبيتُ والشرفاتُ ..

بشلّالها الأرجوان ..

والصُبْحُ خلفَ شبابيكه والزمانُ

وأسرارُ نارِنْجة الصيفِ

والرّمشُ أو غمزةُ الأقحوان

والريحُ إنْ مَرَضَت بالحنين،

ومصطبةُ القَدْرِ والصلواتُ

والطيرُ والدربُ والبائعاتُ

والصبرُ في جَرّة الطين ..

والصّحْبُ إنْ رجعوا نائمين

على كرزٍ ذائبٍ..

والمرايا التي شهدت

كيف تندلعُ النارُ في سُرّةِ الياسمين..

تكتبُ اليومَ

أجملَ ما سوف نقرأ..

يا قُدْسُ ؛

حيفا لها المُبتدا في الرّجوعِ

ويافا لها خَبَرُ العائدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى