إسرائيل وإدارة الجريمة في الداخل
نهاد أبو غوش | فلسطين
جريمة جديدة في البعنة، وكل يوم نسمع عن جرائم وضحايا جدد، وسبق للارتفاع المرعب في معدلات جرائم القتل في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948، أن قرع أجراس الإنذار منذ سنوات عدة، فتنادى الخبراء والقيادات السياسية والمجتمعية، وعُقدت اجتماعات موسعة لهذه الغاية، وأُرسلت مذكرات وعرائض، ونُظّمت مسيرات واحتجاجات حاشدة، وكانت القضية حاضرة بقوة على أجندة القواسم السياسية خلال جولات الانتخابات الربع الأخيرة. لكن شيئا لم يتغير في الواقع، بل إن هذه الظاهرة المفزعة تتنامى وتزداد، وباتت بعض المواقع الإخبارية في الداخل تخصص سجلاّ جاهزا وإحصائيات لعرض هذه الظاهرة التي حصدت خلال هذا العام فقط نحو مئة ضحية غالبيتهم الساحقة من الشباب.
معظم القيادات الفلسطينية في الداخل تتهم أجهزة الشرطة والأمن صراحة بالمسؤولية عن هذه المجزرة المستمرة في الداخل، وبعض الأصوات تنحو إلى لوم القيادات العربية نفسها ببعض المسؤولية عن استفحال جرائم القتل، بسبب تركيز اهتماماتها على قضايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أكثر من القضايا المباشرة التي تواجه أهلنا في الداخل.
قيادات المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة باتت تقر بهذه الظاهرة، حتى نتنياهو وبينيت تحدثا عن هذه القضية مرارا، لكن لسان حال الحكومات الإسرائيلية ومعها الجهات الرسمية المتخصصة، وهذا مثبت في وثائق ومحاضر رسمية، تزعم ان الظاهرة هي صفة ملازمة للمجتمع العربي الذي ينشأ أفراده ويتربّون على العنف، وهي ظاهرة أصيلة، حسب ادعائهم، وراسخة في الثقافة العربية، فالعرب بحسب هؤلاء “يقتلون بعضهم بعضا” سواء في سوريا أو اليمن، أو في الضفة الغربية وغزة وصولا للجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل وعموم البلدات والقرى العربية في الداخل.
لكن الحقائق والإحصائيات تكذب افتراءات الأوساط الإسرائيلية الحاكمة، فإذا استثنينا الحروب الأهلية الشاذة بطبيعتها، فإن معدل الجرائم في الوسط العربي في الداخل يزيد بثلاثة اضعاف عن المجتمعات العربية المجاورة والمشابهة من حيث الثقافة والتقاليد، بما في ذلك مجتمعات الضفة وغزة والأردن وسوريا ولبنان. وجاء الاعتراف الصادم حول دور المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة ومسؤوليتها عن الجريمة في أقوال أرفع مسؤول في الشرطة الإسرائيلية وهو المفتش العام يعقوب شبطاي، الذي أقر في جلسة رسمية أواخر حزيران الماضي، وبوجود وزير الأمن الداخلي الحالي عومر بارليف، بأن المسؤولوين عن معظم الجرائم التي تجري في الوسط العربي هم متعاونون مع جهاز المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) وأن أيدي الشرطة مكبلة في التعامل مع هؤلاء بسبب تمتعهم بالحصانة!
هذا الاعتراف، ليس أكثر من إفشاء لسرّ يعرفه ملايين الناس، لكن الحكومة ترفض الإقرار به رسميا، لأنها ترفض التعامل مع الاستحقاقات التي يفرضها، مع أنه وقع في جلسة رسمية عقدت في المقر الرئيسي للشرطة، وبثت خلاصته وسائل الإعلام، ولكنه لم يؤخذ على محمل الجد، واعتبر مجرد رأي شخصي عابر.
من المعروف أن حكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية، تغض الطرف، وتتعامى عن آلاف قطع الأسلحة المنتشرة بين الأفراد والعائلات والعشائر، طالما أن هذه القطع لا تستخدم إلا في الأعراس وفي الاستعراض والمشاجرات، ولكن الأجهزة عينها مستعدة لأن تقيم الدنيا ولا تقعدها، فتشنّ حملات دهم وتفتيش واعتقالات جماعية، وتفرض الأطواق وكل أشكال الحصار بحثا عن أية قطعة سلاح تشك تلك الأجهزة في إمكانية استخدامها في مقاومة الاحتلال. ونفس هذه المعادلة تسري على الفلسطينيين في الداخل، فالسلاح الذي يقتل به العرب بعضهم بعضا هو سلاح لا يثير قلق الدولة ولا يستدعي استنفار أجهزتها في البحث عنه، أما إذا لاحت بوادر أو احتمالات لإمكانية استخدامه ضد أمن الدولة، وتحديدا ضد يهود الدولة، فعندها سوف تقوم القيامة كما جرى خلال أحداث ومواجهات شهر أيار الماضي في اللد وعكا. وليس سرّا أن معظم قطع السلاح المنتشرة مصدرها سوق السلاح الإسرائيلية السوداء ومخازن الجيش، وبالتالي تتوفر لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية القدرة الفنية على “تشريك” هذه القطع، أو زرع مجسات صغيرة في جوفها، يمكنها تحديد مكان القطعة وحركتها.
ثمة أسباب كثيرة، اجتماعية واقتصادية تقف وراء ظاهرة انتشار السلاح وتفشي الجريمة. ومنها: الإفقار المتزايد الذي يعانيه المجتمع العربي في الداخل، واتجاه بعض الشرائح الشابة للمجال الذي تظن أنه يوفر كسبا سريعا ومن دون مجهود، وهو الجريمة بما في ذلك تجارة المخدرات، وغالبا ما يكون ذلك ضمن أدوار ثانوية مساعدة لعصابات الجريمة الإسرائيلية، إلى ارتفاع نسبة التسرب من المدارس وتدني مستوى مؤسسات التعليم، وغياب المرافق الشبابية والاجتماعية والترفيهية التي تسوعب طاقات الشباب، والاكتظاظ الحاد وأزمات السكن، والبطالة، فضلا عن أزمة الهوية التي يواجهها العربي الفلسطيني في الداخل، والتناقض الذي يعيشه حيث فرضت عليه دولة تعادي شعبه، وتعاديه هو شخصيا وتعادي هويته وثقافته.
ومن الأسباب الجدية، والجديرة بالبحث، الفرضية التي تقول أن الدولة الإسرائيلية تستخدم الجريمة بشكل هادف، لتفكيك المجتمع العربي والسيطرة عليه، وتوجيهه حيثما تريد، وما يعزز هذه الفرضية تكرار المقولات الإٌسرائيلية عن الخطر الديمغرافي الذي يمثله فلسطينيو الداخل و”القنبلة الديمغرافية” الموقوتة التي قد تنفجر في اي لحظة.
ومهما كات الأسباب، خارجية أو داخلية، فهذا لا يعفي القيادات العربية الفلسطينية في الداخل من واجباتها ومسؤولياتها للتصدي لهذه الظاهرة ووقفها، وعدم الاكتفاء بتقاذف المسؤوليات والاتهامات، أو إلقاء اللوم على المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، وهي مهمة ليست سهلة ولا تحل بمجرد اتخاذ قرار، بل هي بحاجة لطائفة واسعة وسياقات متعددة ومتكاملة من النضالات وأشكال العمل الداخلي في كافة الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والإعلامية، وإلا فإن النتائج سوف تكون وخيمة جدا علينا جميعا.