ماستر سين: يونس ولد فضة عمرو سعد وفن التمثيل بالعينين
د. خضر محجز | فلسطين
إضاءة:
ماستر سين (master scene) هو المشهد الدرامي الأهم من حيث الموضوع، والأكثر إتقاناً من حيث الأداء، حيث تتصاعد الأحداثً، قبيل الوصول إلى الحل. وهو غالباً أعلى مشهد في المادة الدرامية، من الناحية الفنية، بحيث يمكنه أن ينسيك ما سواه من مشاهد العمل الفني.
“لا ليه حيلةْ
ولا ليه خاطرْ
عند اللي غاويةْ
كسر الخواطرْ
ارتاح في غيرها
لو كنت خالي
أو جيب آخرها
لو كنت شاطرْ
ف شوقي وحيرتي
معكوسة صورتي
وكأني واقف قصاد مراية”
هكذا يغني أحمد سعد في تتر البادية، بشجن الحب اليائس، من ألحانه وكلمات عمر طاهر.
في كل يوم أحد، يحمل العشاق الأزاهير، إلى قبر الراهبة هلواز وعاشقها القس بيير أبلار، الذي قال لها في آخر رسالة: “لو قدر لي أن أرقد معك في قبر واحد، لرأيتُ السعادة في أن أموت، فلست أعرف من النعم التي يمكن أن يهبها الحب، في هذه الدنيا، ما هو أعظم من هذه النعمة. ولو أنني عشتُ، بعد أن تموتي ويبرد جسمك، لكان ذلك هو الموت الأبدي، ولن يكون في شبحي نصفُ روح، يمسك عليّ حياتي، أو نصف نفسي. هأنذا ألقي قيثارتي. ألا ليتني أستطيع أن أمسك كذلك دموعي وأنيني. لقد آلم العزفُ يدي، وبُحّ صوتي من فرط الحزن، وحل بروحي الإعياء”([1]).
إنه يموت سعيداً. فحقاً قال سبينوزا حين عرف الحب بأنه “فرح مصحوب بفكرة علة خارجية”([2]).
وإنه لفرح مؤلم هذا الذي يضيء في عيني يونس، وهو ينكب دامعاً على فراش معشوقته التي تموت، من شدة الحب واليأس.
ففي آخر مشهد من الحلقة السابعة عشرة، من مسلسل “يونس ولد لفضة” تشاهد عيوننا ـ التي هي بتعبير هيجل أيادي أرواحنا ـ روعة الإبداع، وروعة العاطفة، وبحراً من الشجن الحي، في مشهد عاشق يرى معشوقته تموت.
يونس ولد فضة (عمرو سعيد) يسمع بأن ابنة عمه صفا (ريهام حجاج) تموت، فيركض إلى سريرها يناجيها ويرجوها أن تحيا، ولو بموته هو، وأن تسعد، ولو بالزواج من غيره.
هذا المسلسل هو مسلسل العيون، حيث تبدع ريهام حجاج وعمرو سعد ـ في هذا المشهد ـ بأعينهما، أكثر مما يبدعان بكلامهما.
صفا مخطوبة لابن عمها الآخر مازن (إبراهيم السمان) الذي لا تحبه ولا يحبها، لكنهم يخطبونها له لتحقيق المصالح العائلية، ضد مصالح يونس الذي تعاديه العائلة كلها.
توافق صفا على الزواج من مازن تلبية لرغبة الأب، فتطحن قلبها طحناً يقودها إلى الموت.
إلى هذا الحد تعشق (صفا) أباها (أحمد صيام) ولا ترد له أمراً. فيما أبوها يعشق فيها الحياة كلها، لكنه يرغمها على زواج يرى فيه مصلحتها ومصلحة العائلة الصعيدية.
تفتح صفا عينيها من الغيبوبة، على مناجاة يونس الذي يحاول الأب طرده، لكن حزن ابنته المقبلة على الموت، يجعله يأمره بالبقاء.
يدخل يونس على صفا في المستشفى، وأبوها واقف هناك يناجيها، فتصحو على صوته.
هنا يلتقي الحبيبان مشدوهين، وقد تعرى قلباهما وتجرد جسداهما، فلا يعودان يشعران بالأب الموجود في الغرفة، حيث يواجه الحبُّ الحبَّ، وتقول العينان للعينين، وتترجم الشفاه ذلك كله همساً بطعم الموت:
ـ امشي يا يونس، عشان أبويا ما يزعلش. زعل أبوي غالي، وزعلك غالي، وانا من غلاوتكم انتم التنين مت يا يونس.. قلبي واجعني قوي، أنا اعشق أبوي عشق، هو أبوي وأمي، وروحي انت يا يونس.. أنتو التنين كثير عليه قوي، كثير علي شدكم، ده يشد وده يشد، وأنا من شدكم مت.
ـ أنا في ستين داهية، روقي انتي وما فيش يونس يا صفا، روقي انتي حتى لو اتجوزتي غيري، روقي يا صفا وما لكيش صالح بحاجة.. أنا الغريب اللي مالوش سكن غيرك. روقي انتي ومالكيش صالح. روقي أنتي وما فيش يونس..
ـ أتجوز غيرك؟.. يا ريتني اتخلقت من غير قلب، كنت اتجوزت غيرك.
ريهام حجاج، هذ المبدعة الكبيرة، التي لم يتجاوز عمرها في الدراما المصرية ثماني سنوات، من أين جاءت بكل هذا الشجن والتنوع ممزوجين؟
إنها تموت حباً، وتبتسم فرحاً وسط موتها، فيما تخفي عواطفها عن معشوقها، ببراعة لا يحسنها سوى الكبار.
إن فرحها الحزين يغلب تصبرها الضعيف! وإن عاطفتها لتنطق دون كلام!
وهذا الممثل الكبير حقاً (عمرو سعد) أي شجن في عينيه، يقود نجاحه في كل الأعمال، ابتداءً من “شارع عبد العزيز” إلى هنا في “يونس ولد فضة”!
المسلسل مليء بالمشاهد الكبرى والدراما. ولنا ألا ننسى أن عظمة التمثيل هنا تتجسد في أسمى صورها في العظيمين عمرو سعد وسوسن بدر.
باستثناء هذا المشهد، لا يستطيع أحد من الممثلين الكبار ـ وكلهم كبار ـ أن يصارع أيا من عمرو سعد وسوسن بدر على القمة.
لقد أكل الولد وأمه الجميع.
[1]ــ ول وايريل ديورانت. قصة الحضارة. ج17. دار الجيل. ص89 ــ 90
[2]ـ باروخ سبينوزا. علم الأخلاق. المنظمة العربية للترجمة. ص214