آنّا كارنينا.. حتمية التاريخ وسحر تولستوي

د. خضر محجز | فلسطين

تولستوي الكاتب الروسي العظيم، يؤمن بمبدأ الحتمية، وهو شيء مقارب لمذهب الجبرية، لكنها جبرية الظروف. إن حتمية تولستوي تقع في منطقة وسطى بين جبرية المسلمين وسلطة علاقات الإنتاج لدى الماركسيين.

في روايته الأعظم (الحرب والسلام) يؤكد تولستوي بأن «لا مفر من الحتمية في التاريخ، لتفسير الحوادث اللاعقلانية» فقد قاده التأمل الطويل، في مجريات الحرب ودوافعها ــ وما آلت إليه من ثم ــ بأن الحرب بين القيصر الروسي ونابليون، ما كان لها أن تمتنع عن الاشتعال؛ لسبب بسيط: هو أن أيّاً من الخصمين العظيمين لم يكن يملك أن يمنعها. لقد كان نابليون دميةً في يد الحتمية، وبنفس القدر كان الإسكندر.

في (أنا كارنينا) نلاحظ تحكم نفس القوة في فعل البشر، كما يرى ذلك تولستوي. فبطلة الرواية (آنّا كارنينا) المتزوجة التي تقع في عشق الشاب الجميل التافه (فرونسكي) بمجرد أن يحدث اللقاء بينها وبينه بالمصادفة في محطة القطارات ــ وقبل أن تبدأ العلاقة ــ يروعها، كما يروع جميعَ من في المحطة، انتحارُ شخص يرمي نفسه تحت عجلات القطار.

ونحن نعرف أن بذرة النهاية للأحداث، التي سوف تقع فيما بعد، قد أُلقيت في هذه التربة: تبدأ القصة بانتحار شخص مجهول تحت عجلات القطار، ثم تنتهي بانتحار (آنّا كارنينا) تحت عجلات القطار.

هذه البراعة في التنبؤ لدى تولستوي لا تدهشني، فهو الذي يصنع الأحداث ــ لذا فليس هناك أسهل عليه من أن يعرف منتهاها ــ لكن الذي يدهشني هو قدرته الفذة على إقناعنا، بأنه تمكن أخيراً من أن يلقي في روع (أنا كارنينا) أن نهايةً كهذه جديرة بالتجربة، حين تخرج الأمور عن السيطرة!.. يبدو لي أن هذا أحد أسرار سحر تولستوي.

تريد أن تعرف إلى أي مدى كان تولستوي كاتباً أخلاقياً؟ انظر إليه وهو يصف الفرق بين حالتي (آنّا) وفرونسكي ــ العشيقين المستقبليين ــ حين وقع الحادث: لقد صُعقت رقة (آنّا) من الهول، فيما واصل وجه فرونسكي الجميل هدوءه غير الآبه بمصائب الآخرين.

هكذا نتنبأ مع الرواية بأن العلاقة القادمة، بين (آنّا) وفرونسكي، لن تكون علاقة بين متساويين، أو متشابهين، أو بين مخلوقين يضاهي أحدهما الآخر… منذ البداية نعرف ذلك، مقروناً بانتظار الانتحار في آخر الرواية الرائعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى