أين مفكرو الأحزاب اللبنانية ؟
توفيق شومان | مفكِّر وخبير سياسي لبناني
أبحث عن مفكر حزبي لبناني … فلا أجد !!!
أبحث عن كاتب حزبي مرموق يكتب مقالة مرموقة فلا أجد.
أبحث عن كتيب حزبي يقدم رؤية أو تصورا لإعادة بناء الدولة ؟ عن كتاب في الإصبلاح المالي والإقتصادي؟ عن قصاصة استراتيجية ؟ عن قصة قصيرة كتبها حزبي لبناني ؟ عن رواية ؟ عن قصيدة معتبرة ؟ عن أغنية ؟ فلا أعثر ولا أجد .
أبحث عن صحيفة حزبية ، فيقول الحزبيون أنفسهم إن صحف الأحزاب أدبرت ولا قيامة جديدة لها ، وإذ يُشار إلى وسائل الإعلام الجديد كألسنة حال لأحزاب الحال ، سرعان ما تفر العين والنفس من أول خبر وتعليق ، فالخيالات الجامحة في التحليل ، والشتائم الطاعنة بمن يحيد عن سواء السبيل ، والأخطاء الفاحشة في قواعد اللغة والإملاء ، والمقاصل الضاربة في رقاب معايير الإعلام وأعرافه وتقاليده ، تجعل الهروب من أغلب هذه المواقع رحمة ولطفا لا يساويهما إلا نعمة النفس المطمئنة .
في الزمن الذي مضى ، كنتُ أقرأ صحيفة ” النداء ” الشيوعية بشغف ، و” العمل ” الكتائبية بشراهة و ” بيروت ” البعثية بنهم ، و الأحرار” الناطقة بإسم حزب ” الوطنيين الأحرار” بشهية ، و ” الحرية ” المزدوجة النطق بلساني الجبهة الديموقراطية ” و ” منظمة العمل الشيوعي ” بإفتتان ، و ” صوت الشغيلة ” لسان حال ” رابطة الشغيلة ” بهيام ، ومع كل نهاية أسبوع ، كانت حرارة القراءة ترتفع وتنخفض بإنتظار مجلة ” المسيرة ” القواتية و” القومي العربي ” الناصرية و ” صباح الخير ” و” البناء ” القوميتين السوريتين .
لو جرت المقارنة بين إعلام حزبي رحل ، وإعلام حزبي حل ونزل ، لن ترسو هذه المقارنة لصالح الوريث ، فالصحافة الحزبية السابقة ، كانت ذات إخراج فني راق ، وتبويب محترم ، و تحرير علمي رفيع ، و مقالات وتعليقات تقدم وجهات نظر الأحزاب ورؤاها وفقا لقواعد محترمة في الكتابة ، تستهيب عقل القارىء ولا تستغبيه ولا تستجهله .
هل تجوز المقارنة بين أمس الإعلام الحزبي وما غدا عليه يومه ؟
أظن أن ذلك حرام .
في أحزاب اليسار ، برز مفكرون كبار من أمثال مهدي عامل وحسين مروة وقائمة يصعب عدها ، أنتجت كتبا ومؤلفات عكست بإتقان شديد وعلمية مشهودة المنظومة الفكرية لأصحابها ، وإذا كان كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم شكلا العقل الفكري والسياسي والفلسفي للأحزاب اليسارية والقومية ضمن التجمع العريض المعروف ب ” الحركة الوطنية ” ، فإن ” الجبهة اللبنانية ” المصنفة على اليمين السياسي كما جرت تعريفات الفترة الماضية ، ضمت مفكرين من الصنف الشاهق ، من نوع : شارل مالك وفؤاد أفرام البستاني وفؤاد الشمالي وجواد بولس والشاعر سعيد عقل ، ومن المدرسة القومية السورية الإجتماعية سيتخرج ألمع الشعراء ـ الأدباء ـ المفكرين من مثل يوسف الخال وأدونيس وكمال خير بك ومحمد الماغوط ، وغيرهم من سلسلة طويلة ، وسيبرز من ” حركة لبنان الإشتراكي” فواز طرابلسي وأحمد بيضون ووضاح شرارة ، قبيل وبعيد اندماج الحركة مع ” منظمة الإشتراكيين اللبنانيين ” وانتظامهما في إطار حزبي جديد هو ” منظمة العمل الشيوعي “.
في الخمسينيات ، سيُبكر حزب ” الكتائب ” بنصوص رؤيوية صاغها موريس الجميل في عناوين منها ” تقويم لبنان / تصاميم وبرامج ـ كما تكونون يولى عليكم “، وسيكتب أمين ناجي ( انطوان نجم ) عن ” فلسفة العقيدة الكتائبية ” و ” الوحدة اللبنانية ” و ” شرعة من أجل ميثاق وطني جديد ” ، وسيتبعه جوزيف شادر في كتاب جدلي عن ” الإشتراكية والشيوعية والليبرالية ” ، وعلى جادة الجدل نفسها ، سيكون ل ” الحزب السوري القومي الإجتماعي” أسبقية فكرية كثيفة ، فتخرج من مطابعه كتب فائقة في أهميتها النظرية والجدلية في طليعتها ” نشوء الأمم ” للمؤسس والمفكر انطون سعادة ، ومن بينها ” نحن ولبنان ” لعبدالله قبرصي عام 1954 و ” الوضع السياسي في الوطن والعالم العربي ” الصادر عن عمدة الإذاعة في عام 1955، ومثله يذهب الحزب التقدمي الإشتراكي إلى الجدال مع الأحزاب وعقائدها ، فيصدر كتبا وكتيبات من بينها واحد إشكالي وسجالي عنوانه ” الحزب التقدمي الإشتراكي والأحزاب اللبنانية ” في عام 1969، وفي ظل هذه الجدالات والنقاشات سيصدر فؤاد كرم من “حزب الوطنيين الأحرار” كتابه الساخن المعنون ب ” الكتاب الأسود / كمال جنبلاط حقائق ووثائق “.
حزب ” البعث ” ، بدوره ، سيشد الرحال إلى النزال الفكري بثقل رصين ، وسيضع مصطفى دندشلي كتابين نوعيين ، الأول : ” حزب البعث العربي الإشتركي 1940ـ1963″ والثاني : ” قراءات في الفكر القومي والماركسية والسياسة الدولية ” ، وبشير الداعوق ” اشتراكية البعث ومنهاجه الاقتصادي” ، وستشكل دور النشر الثلاث ” دار الطليعة ” و ” المؤسسة العربية للدراسات والنشر ” ومركز دراسات الوحدة العربية ” القوة الفكرية والطباعية الضاربة لحزب ” البعث ” وأفكاره ، متخذة على عاتقها نشر مؤلفات ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز والياس فرح وشبلي العيسمي وسعدون حمادي ، وسواهم من القيادات التاريخية للحزب ، وفي تلك الفترة العاصفة بالأفكار ، لن يكون المفكر منح الصلح بعيدا عن فضاءات حزب ” البعث “.
من كانوا على يمين اليمين ، ويسار اليسار ، لم يكونوا أقل جدلية أو أقل فكروية من التقليديين على جبهتي اليمين واليسار ، فتنظيم ” حراس الأرز ” سيدفع قائده أتيان صقر كتبا ذات شأن إلى مريديه ، على غرار ” فصول في الوعي القومي ” ولبنان الجديد ” وغيرها ، وفي الفترة عينها سيصدر ” التجمع الشيوعي الثوري كتابا حمل عنوان ” الحرب الأهلية في لبنان ” ، وسيذهب ” الحزب الديموقراطي الشعبي ” إلى إصدار كتيبات ومذكرات نقدية من بينها ” مذكرة إلى الرفاق والأخوة في الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية ” ، وهي حال ” حزب العمل الإشتراكي العربي ” الذي سينشر كتبا وكتيبات من مثل ” مذكرة سياسية حول موقف الحركة الوطنية السياسي وخطتها القتالية ” و ” المقاومة الوطنية انطلاقتها وواقعها وآفاق تطورها “.
في الفضاءات الحزبية تلك ، سيطل شعراء وأدباء كبار ، من قامة سعيد عقل وصلاح لبكي وخليل حاوي وعباس بيضون ومحمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين وشوقي بزيع والياس لحود وموسى شعيب وموريس عواد ويونس الإبن وجوزيف حرب وعصام عبد الله ، وغيرهم مما لا يمكن حصرهم .
ما الذي يحول دون أن تنجب الأحزاب الراهنة أو فضاءاتها أو مداراتها شعراء وأدباء من مستوى الكتلة الصلبة المذكورة قبل حين؟
هل من مُجيب يجيب؟
وهل من قول لقائل؟
براحة ضمير يمكن القول إن لدى أكثر الأحزاب الراهنة جيوش من المتعلمين وحملة الشهادات العليا ، هم تقنيون على الأغلب ، تقنيون بحدود الوسط وما دونه ، طموحاتهم ومشاغلهم متمحورة حول مكتبية الوظيفة أو الموقع الحزبي ، وفي قطاعات وظائفهم أو في مواقع مسؤلياتهم ، ليسوا مبدعين ومبتكرين ، أغلبهم تنفيذيون ولا يتحلون بروح المبادرة حتى في مجالات تخصصاتهم ، ويندر وجود مثقفين بينهم ، وإن وجدوا فهم قلة ، قلة لا صوت لها ولا حرف ولا نص .
لا شك ، أن قابلية الأحزاب الحالية لإستيعاب المتعلمين عمل صالح ، لأنه ينطوي على احتمال انتقال أشخاص منهم إلى فئة المثقفين أو المفكرين ، إلا أن إشكالية هذه الأحزاب ترتبط بإفتقادها إلى العوامل التحفيزية لإنتاج مناخات الثقافة والتفكير ، وأول العوامل تلك ، يفترض إخضاع آليات الإرتقاء الحزبي إلى أهلية التثقيف المفقودة في الواقع الحزبي الراهن أو غائبة أو منعدمة أو شبه منعدمة .
كان للأحزاب السابقة رؤاها وتصوراتها حول لبنان أو “لبناناتها ” ، إلا أنها أخطأت في اندفاعها نحو الحرب.
الأحزاب الحالية تخطىء مرتين : الأولى باستمرار صراعاتها ، والثانية بافتقادها إلى الرؤى الخاصة بإعادة بناء لبنان.
كيف يمكن أن تبني الأحزاب اللبنانية لبنان الجديد ، وهي تفتقد إلى من يفكر ويبحث وينقب ويدرس تجارب البناء والإنقاذ في دول ومجتمعات عصفت بها الويلات والأهوال كما ويلات لبنان وأهواله؟.
كيف يمكن أن يذهب اللبنانيون إلى لبنان الجديد ، وهم يفتقدون إلى “عقول باردة ” تفكر بهدوء وتضع مداخل حلول لغليان الواقع وحمأته وحماوته وحرارته؟.
كيف يمكن أن يحل التفكير محل العصبيات ؟
والعقل محل الغرائز ؟
والوطن محل القبائل؟
وعمل الدماغ الرصين محل اللسان الطويل ؟
تلك مهمة المفكرين … وتلك مهمة المثقفين .
عشتم وعاش لبنان .