كلام في الثقافة
د. خضر محجز | مفكِّر فلسطيني
الثقافة فعل دنيوي، فنحن نعلم جميعاً أنها صناعة بشرية من فعل الدنيا. ولو ذهبنا إلى أصل الكلمة في العربية لوجدنا معناها تشذيب العود، أي تغيير طبيعته. ثم لو ذهبنا إلى معناها في الانجليزية لوجدناه مشتقاً من الزراعة، وهي تغيير آخر للطبيعة. وكل هذا يؤكد التغيير الذي يجريه الناس على الطبيعة. فالطبيعة والثقافة فعلان متقابلان. فحين أقول عن إنسان بأنه طبيعي، فذلك يعني اليوم أنه غير متحضر، أو حتى مقبول بين المتحضرين. فالمتحضرون أناس أجرت عليهم الحضارة تغييراً ما.
لكن المعنى الاصطلاحي اليوم لكلمة مثقف يقترب من قولنا عن شخص ما بأنه أكثر من متعلم، أو شخص يجيد إلى جانب التعليم الأساسي فناً علمياً أو أدبياً ما، يفوق ما يجيده المتعلمون العاديون.
ثم صار المصطلح ينزاح رويداً رويداً نحو التحديد، بحيث صار المثقف هو الشخص الذي يرتدي زياً أنيقاً إلى حد ما، ويتكلم بطريقة متخصصة في شيء ما، ويتصرف بطريقة أكثر نعومة خلال نقاش الأمور الخطيرة.
ولكي نختار واحداً من هذه المفاهيم يمكن لنا التوحيد ما بين المثقف والمفكر. وعلى هذا يصبح الكلام عن المثقف هو الكلام عن شخص يشتغل بمناقشة الأفكار. فالسياسي والأديب والشاعر والناقد والسينمائي والمسرحي والممثل الفنان كلهم مثقفون.
بقى السؤال: فلم لم تدرج بين هؤلاء رجل الدين؟
لأن رجل الدين لا يناقش الأفكار، بل يبحث في محاولة فهم أوامر الإله. فالفكر لدى رجل الدين لا يحتل مكان الأولوية، خصوصاً وأن الفكر مادة قابلة للدحض مطلقاً أو نسبياً، بخلاف الدين الذي لا يمكن نقده من الجذور.
هكذا عدنا لنؤكد أن الثقافة فعل دنيوي بامتياز. وربما لهذا ظلت هناك دوماً مسافة من الشك والتحسب تفصل بين المفكرين ورجال الدين. فإذا كان دور رجل الدين بيان الحكم الإلهي، فدور رجل الفكر بيان الحكم الدنيوي.
يهتم رجل الدين بقيادتك إلى الآخرة ربما بما يضر بدنياك، ويهتم المفكر بقيادتك إلى مصلحتك الدنيوية ربما بما يضر بآخرتك. واضح أنني أتكلم عن الشكلين المتطرفين لرجال الدين والفكر. وما ذاك إلا لأتمكن من وضع الحدود بين المفهومين.
حسناً، لقد علمنا ما هي مهمة رجل الدين، وعلمنا كيف يؤديها. فما هي مهمة المثقف، أو رجل الفكر؟
أعتقد أن مهمة المثقف أن يحسن أمرين:
1ـ أن يحسن استخدام أدواته وتطويرها
2ـ أن ينحاز إلى جانب الجمهور، ويتبنى قضايا الذين لا أحد يتبنى قضاياهم.
ففي المقام الأول على المثقف أن يلتزم بشروط مهنته: فإن كان روائياً، فعليه أن يكون روائيا جيدا يقص قصة ممتعة. وإن كان شاعراً فعليه أن يمس مشاعرنا ويحلق بنا إلى عوالم بعيدة عن كل هذا القبح، عوالم من الخير والحب والجمال. وإن كان سياسياً فعليه أن يحسن التلاعب بالكلمات ويقدر المواقف ويستطيع الموازنة بين الممكن والمستحيل، تقديراً لوجوب الوصول إلى أقصى الممكن… وهكذا
وفي المقام الثاني على المثقف أن ينحاز إلى جانب الوطن والفقراء والمرأة والعدالة وحقوق المهمشين وقضايا الحريات والمساواة الاجتماعية.
كل ذلك يطرح سؤالاً:
ما مدى صحة أن نصف شخصاً بالمثقف لمجرد أنه شاعر كبير يمتعنا، ورغم ذلك فهو متحالف مع غير الوطن؟ هل هذا الشخص مثقف، أو مفكر؟
يبدو لي أن كلمة مثقف صارت في العقود الأخيرة تحمل مضموناً أخلاقياً. فما هو غير أخلاقي يجب أن يكون غير ثقافي، لسبب بسيط هو أنه من بقايا الغرائز المنحطة التي سبق لمسيرة الحضارة أن طوعتها أو تخطتها، فالعودة إليها هي عودة إلى الطبيعة، إلى الغابة، إلى وقت كان فيه البشر يأكلون البشر.
لكن بعضهم خرج لنا بتقسيمات للمثقفين أهمها:
1ـ المثقف العضوي ـ والتعبير لغرامشي ـ الذي ينتمي إلى طبقة صاعدة ينظر لانتصارها. وهو قريب من المثقف الملتزم عند سارتر.
2ـ المثقف التقليدي وهو المستقر في وظيفته، كالقاضي والمحامي والمعلّم والمهندس.. إلخ
3ـ المثقف التقني، وهو الذي يفصل بين المعرفة والسياسة، فيرى في المعرفة ملكية خاصة قابلة للبيع والمقايضة، وهو ما يجعله يقيم علاقة وثيقة بين المعرفة والمصلحة.
4ـ المثقف الريفي، وهو الذي يجعل المعرفة سبيلاً إلى الوجاهة الاجتماعية.
5ـ المثقف التلفيقي وهو الذي يعثر على وصفة خاصة لكل فترة.
والآن ماذا نريد نحن من المثقف، أو ماذا نتوقع منه؟
يبدو أن الجواب صار حاضراً