” ما لم أكتب أجنّ “.. قراءة نقدية في دواوين د. ريم سليمان الخش (1)

أحمد الشيخاوي | ناقد وباحث في الأدب

إن المستشفّ من باطن ومخبوء هذه المقالة  “الخلدونية” نسبة إلى الفيلسوف العربي العظيم عبد الرحمن بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، دال ضدّي، على نحو يساوي الكتابة بالجنون ، لكنه جنون النبوغ والعظمة ، بكل تأكيد.

إن الكتابة أقدس من كونها مجرّد ترف، أو محطّة للترويح عن النفس، بل هي رسالة إنسانية نبيلة ، تستحقّ مثل هذا المستوى من الجنون ، والانشقاق عن الأسراب العادية، بغية تأمم علياء الأمجاد.

الشعر على نحو خاص، ألصق ما يكون بإبداع الجنون، فهو يجبرنا على وضعه فوق الحياة بحدّ ذاتها.

يقول روبيرت غريفز: [ليس هناك أموال في الشعر، لكن في نفس الوقت ليس هناك شعر في الأموال أيضاً] .

ويقول ترومان كابوت : [أن تنهي الكتاب يشبه أخذ طفل إلى الحديقة الخلفية وإطلاق النار عليه].

ويقول ستيفن كينغ: [أنا أخلق تعاطفاً مع شخصياتي ، ثم أطلق الوحوش].

ويقول سي. جي. تشيري: [أن تكتب أشياء سيئة هو أمر مقبول، طالما تقوم بتعديله بطريقة ذكية].

ويقول جان بول سارتر: [الشعر يخلق الأسطورة ، النثر يرسم صورة له ].

وتقول باربرا كينغسولفر : [لا تفكر أبدا بما يريد الناس سماعه منك ، بل فكر بما تريد قوله ، إنه الشيء الوحيد الذي سوف تقدمه].

ويقول ويليام فوكنر : [انهِ عملك واغتنم الفرص ، قد يكون سيئاً لكن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكنك من أن تفعل شيئاً جيداً حقاً].

ويقول مارك توين : [يعتبر معظم الكتاب أن الحقيقة التي بحوزتهم هي الأكثر قيمة، لذلك يقتصدون في استخدامها ].

إن الإبحار في تجربة الشاعرة السورية ريم الخش، بعدّها صوتا مهجريا بارزا ، يغري بقطوفه وتثقله الهواجس الإنسانية الكبيرة ، سوف يكون ، دون أدنى شك، ماتعا ، وطاعنا بلذة التوغل في عوالم الشعرية الملغومة المفتي بهذا هذا الثالوث المرعب: الكتابة / الإغتراب / الجنون.

 

وتقريرا لا يمكن فصل الأدب عموما، عن سياقات تاريخية معينة، كون الأوطان والشعوب، إن في رقيها أو انحطاطها ، إنما تقاس بمنسوب ازدهار الأدب وتدهوره.

وإذا ركّزنا على جنس الشعر ، بعدّه ديوان العرب، مثلما هو شائع، أمكننا القول إنه، أي هذا الجنس التعبيري، في انتسابه إلى عصر ما، لن نجني من غائيته ،ما قد يصب في مقاصد بحثنا، ما لم نحاول محاصرته  بشتى أغراضه ، في منصات واقعيته ومدى ملامسته لصميم إنسانيتنا، وكذلك طاقة الذات المبدعة في إسقاط ما ينبغي عليه، سواء من دوال المعرفة أو الجمال، زخم المفردات التي باستطاعتها عكس معاناتنا الحقيقية، والنهل من عمقها وصدقها.

إن أقصى ما كانت تحتاج إليه القبيلة آنذاك، الكائن المدجج بفروسيته، والتي ـــ حتما ـــ  لن يصوغ ملامحها سوى السيف أو اللسان، وفي أحايين كثيرة يتمّ تقديم اللسان لخطورته وحجم جدواه.

وبعدها المجتمع المدني، وإن اتخذت المنظومة المفاهيمية المرتبطة بجدلية السيف واللسان ، معان مغايرة  وأكثر نضجا وموسوعية، ربما تساير التطورات العقلية والسيكولوجية .

ولأن ما نعيشه اليوم، يعتبر نسخا تكاد تكون شبه مكرورة، تجتر سير الماضي وتنبض بصفحات تاريخانيته ، بخاصة في جوانب الجنائزية و الإنكسارات ولغة الموت وعولمة الخراب ، أستحضر العصر المملوكي، باقتضاب، مع الإشارة إلى بعض الثغرات التي سهّلت غزو جزءا من بلاد العرب ، من قبل القوى الغازية التترية الهمجية والمتوحشة :

  • الفردانية الإيديولوجية السلبية

وهي ميزة جعلت كل دولة تتقوقع على مصالحها ، فضربت بذلك الإفراط في الأنانيات والنفعيات الضيقة ، صلب الثقافة والروح العربية ،التي أثبت التاريخ أنها كلما احترمت وتمّت تغذيتها، استعصت الخارطة العربية على الطامعين من فرس وروم ، وقتئذ.

  • التراجع الثقافي

وحين نقول ثقافي ، نعني به ذلك الكل المركب ، مما راكمته الأجيال العربية في تعاقبها، من ادب ومعرفة وفلسفة وفكر وفن إلخ…

لقد تركت بغداد عورة، كما يقال، مع أنه يقال أن الدفاع خير وسيلة للهجوم في الإستراتيجيات الحربية، ما أدى إلى استعمار كامل العراق بسهولة كبيرة ، ومن بعدها سورية ، لتكون حرب التصدي لهذا الغازي المتطش لدماء العرب وثرواتهم، أكثر شراسة وحكمة من قبل ثلة من المماليك ،قبل المحطة الثالثة في ذلك المخطط التتري الدموي، مصر العروبة والكنانة.

غير أن الطفرة بين الأمس واليوم ، إنما تسجلها مثل هذه المفارقة العجيبة والتي تدمي القلوب، من عدو خارجي ، إلى داخلي، وقصة اندلاع الثورات العربية منذ 2010.

[الثورة التونسية (والتي تعرف أيضا بثورة الحرية والكرامة أو ثورة17ديسمبر أو ثورة 14جانفي) هي ثورة شعبية اندلعت أحداتها في 17ديسمبر 2010تضامنا مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده في نفس اليوم تعبيرا عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطية فادية حمدي(وقد توفي البوعزيزي يوم الثلاثاء الموافق 4يناير2011في مستشفى بن عروس بسبب حروقه البالغة ](1).

من هنا التفتت أسماء في المشهد الإبداعي العربي، إلى ضرورة أن يكتب مثل هذا التاريخ ، بدم، فظهرت تيارات جديدة ، مثل ميليشيا الثقافة في العراق، ولقدت نزفت الأقلام المهجرية بالموجع مما آلت إليه أوطانها ، كذلك ،وفي شتى مناحي الإبداع من شعر وسرد وتشكيل.

نعتبر الشاعرة السورية المغتربة من أبرز الأسماء التي ذادت عن هذه القناعة ،وكرّست لتجليات هذا الحسّ ، في مجمل مجاميعها الشعرية التي أصدرتها ،حتى الآن.

وهو انتقال من عداوة خارجية إلى داخلية كما أوردنا، أنتج مثل هذا التاريخ المصطبغة صفحاته بكامل هذه الفوضوية الدموية والإضطرابات، يضعه الشعر في قفص الاتهام، والمحاكمة .

بحسها المتوهج بعقيدة الإنتماء، ترنّمت ريم، مدشّنة أبدية الإخلاص إلى الكتابة العروضية، مجدّدة في المعجم والصورة والدال الشعري.

تقول شاعرتنا

[ويسألني غلاميَ ما الرجولة

                          وما معنى الكرامة والبطولة

وهل صارت أساطيرا وصرنا

                        ذكورًا طامحين إلى الفحولة ](2)

من هذه الخلفية التي تجسدها مطالب المواطن العربي المضطهد والمحاصر والمقهور : الحرية، الكرامة، الخبر. نرى هذه الشعرية تنبثق، كي تمارس أضربا من خطاب النضال والتمرد بصوت النعومة الخفيضة، والمناورة بإيقاعات الزلزلة.

إنه عصر تبدل المفاهيم، بامتياز، أين فحولة اليوم المزيفة، من مروءة الجاهلي ، حتّى؟

إن نداء الاستغاثة الذي أطلقته سيدة اعتدي عليها في عهد المعتصم، صاغ قيامة للنخوة العربية، وفجر ينابيع المروءة والفحولة ، على نحو صهل معه العرض العربي.

ترتقي الرمزية في كتابة الشاعر ريم الخش، إلى مستويات أبلغ ، في استحضار نظير هذه الصفحات الأكثر إشراقا في الفكر والعقلية العربية.

من خلال عوالم، شعرها الموازية، نلفيها، استطاعت صناعة ثقافة لا تسجننا في التراث والذاكرة، بقد ما تحفّزنا على الخلق والابتكار، في حدود أنساق الإنتساب إلى الجذر.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى