لَقَدْ مَاتَ أعْزَلَ
الأب يوسف جزراوي | شاعر عراقي مغترب
من ديوان (فِي البَدْءِ كَانَ العِراقُ)
فِي اللّيَالي الدّامِساتِ
خَرَجُوا مِنْ جُحَورهمِ بالبراري
كالطّيور الكَاسِرةِ
وسَارُوا بِظلالِهم الْمُتَوَارِيّةِ
في كُلِّ الدُّرُوبِ والْاِتِّجَاهَاتِ
فَأَمْسَكَوا بِهِ خُلْسَةً
جَلَدَوُهُ أوّلاً
ثُمّ كَلَّلَوا بالشّوكِ رأسَهِ
واِقْتَادَوهُ نَحْوَ دِرَابِ الجُلُجلةِ
لِيُحْكَمُوا عَلَيْهِ حُكْمًا
وكأنّهم أتمّوا كُلَّ الْوَصَايَا!.
……
عَذَّبَوُهُ مِثْلَ حَمَلٍ
نَهَشَتْهُ الْغِرْبَانُ
حَتَّى رَعَفتْ مِنْهُ الجَرْاحَ
فذهَبَ عَلَى مَرَاحِلَ
إِلَى الْعَالَمِ الْآخَرِ.
……
حَدَّثَهُ الجُناةُ
بِلَهجةٍ عِرَاقَيّةٍ رَكيكةٍ
لَمْ يَأَلِفْها مِنْ أَبْنَائهِ
فطَلَبَ مِنهُمْ طَلبًا
قَبْلَ أَنْ يَلْفَظَ أَنْفاسَهُ الْأَخِيرَةَ
مُؤَدّاهُ:
أن يَتْلُوا نَشِيدَ مَوطِنيّ
عَلَى مَسْمَعٍ مِنْهُ
لَكِنَّهم اِمتَنَعَوا فِي الحالِ!
عَادَ فَسَأَلهُم أَنْ يُقَدِّمَوا لَهُ وُصْلَاتٍ
مِنْ دَبَكاتِ:
الخكةِ والجوبي أو الهلبركي؟
فَدَبكوا لَهُ دَبكةً فارسيّةً…
تَيَقَّنَ خِلَالِها مِنْ شُكوكهِ!!
……
تَلا الضَّحِيَّةُ صَلاةً
وبِصَمَتٍ عاتَبَ السَّمَاءَ:
ربّاهُ
مَا هَذَا الشّقاءُ؟
لاَ تَغْفِرْ لَهُمْ
لأنَّهُم يَعْلَمُونَ مَا يَفْعَلُونَ.
ثُمَّ أَسْلَمَ الرُّوحَ…
ليموتَ كَالنخلةِ واقِفًا
كَمَا يَمُوتُ العَظمِاءُ والأبرياءُ
فَكَانَ الصّمتُ جُثّةَ المَكَانِ!
……..
مَضَتِ السَّاعَاتُ
حَتَّى فَتَحَ اللَّيْلُ عِيْنيهِ
عَلَى دَمُوعِ النّهارِ
فَرَآهُ العَالَمُ مَقْتُولاً
فِي ظُروفٍ غَامِضَةٍ
فاِنْتَحَبَوا وَتَعالَى الاستنكارُ
وَشَرَعَوا بِالعَوِيلِ والحدادِ
ثُمَّ تساءلوا :
بأيّ ذَنْبٍ قُتِلَ؟!
فَقَدَ عَاشَ بَيْنَنا
كَالوَرْدَةِ بَينَ الْأَشْوَاكِ!.
……..
تَجَمهَرَ حَولَهُ الأشقّاءُ والجِيرَانُ..
الأصدِقاء وَالأعداءُ
وهُم يصعّدون الصُّراخَ:
وا وكستاه ….وا مصيبتاه …
ثمّ تَرَحَّمَوا وَتَفَرَّقَوا
لِيتَناقَلَوا نَبَأَ الْمَأْسَاةِ
فِي زَوَايَا نُفُوسِهم الصَمَّاءِ.
………
تَرَكَوُهُ وَحِيدًا كَالعَادَةِ
وَلَم يبقَ بِجَانِبِهِ
سِوَى الفَرَاشَاتِ المفْطُومُاتِ
مِنْ رَحِيقِ الزَّهْرَاتِ
لِيهَوَّنَّ عَلَيْهِ المُعَاناةَ.
…..
رأيتُهُ عَنْ بعدٍ
مُضرَّجًا بِالدِّمَاءِ
فهُرِعَتُ إِلَيْهِ مُسْرِعًا
كحوّامةٍ تُسْعِفُ المَنْكوبينَ
لأسألَهُ عَنْ الوجوهِ الَّتي غَدَرت بِهِ؟.
فَمَا نَطَقَ بِبِنْتِ شَفَةٍ!
كَانَ قَد مَات
وفِي قَلبهِ لَظًى
أَحْرَقَ صَدَى الْكَلِمَاتِ
مَثْل حَطَبٍ أَكَلَتُهُ نَارُ المَوْاقدِ!.
…….
أسْبَلتُ جَفْنيهِ عَلَى عَيْنَيهِ
كَي لَا يَرَى قُبْحَ الْجُبَناءِ
ثُمَّ دَثْرّتُهُ بِعَلَمِ الشُّهَداءِ
وَحَمَلَتُ نَعشَهُ الْمُسَجَّى
مَعَ الْعِراقِيِّينَ الشّرفاءِ والأصلاءِ
وَطَفنا بهِ كُلَّ الْمُحَافظَاتِ والبُلْدَانِ
كشراعٍ يَعْلُو سُفُنَ الخلجانِ
فَكُلُّنا الْيَوْمَ ناعِشٌ وغَدًا مَنْعوشٌ.
……
فِي سُرادِقِ العَزَاءِ
حَدَّثْتُهُم:
بَلديَ الّذي رَضَعَ التّعبَ
مِنْ ثَدْيِ الْحَيَاةِ
كَانَ خَيمَةً للمُتعَبينَ
ووطَنًا لكُلِّ المَنْفِيّين
مِمَّنْ سُحْبَتْ مِنْهُم
جِنْسِيَّةُ الرّخاءِ وإقامَةُ الأمانِ
فكَم مِنْ مَرَّةٍ
تَسَلَّقَتُم عَلَى كتفهِ كالّلبلابِ
وَكَمْ ضمّدَ جِرَاحَكُم
وَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ وَمَرَّةٍ
صدَّ عَنكُمُ الرّياحُ العاصفاتِ!.
……
ودُونَ مُشَاحَةٍ فِي السّؤالِ
سألتُهم:
لِمَاذَا قتلتموه
بِلا رَحْمَةٍ أو مُرَاعَاةٍ؟!
فوَطَني كَانَ لَكُمْ كالسّمكةِ
مأكولًا ومذومًا!
وَكَشَجَرَةٍ أُخِذَتْمُوها للمحرقةِ
بَعْدَما قَطَفتُم قُطُوفَهَا الدَّانيةَ
بَلْ كَانَ لَكُمْ كعودِ كبريتٍ
تَرْمُونَهُ كُلَّمَا أَوقَدَتُم شَمعةً
تُضِيئُونَ بِهَا عتْمَةَ نُفوسِكم!.
…….
ولأنّ وَخَزَات العِتَابِ لَا تُطاقُ
فِي مثلِ هَذِهِ الأوقاتِ
تَرَاهُمْ تهرُّبوا أوَّلاً
وَمِنْ ثَمّ وضَعوا رُؤُوسَهمِ
فِي التُّرابِ كَالنَّعامِ
لِيتقيّأوا فِيمَا بَعْدُ
أعذارًا فجّةً فِي آذانِ ضَريحهِ
صَاحبَتْها دُموعٌ مَلؤهَا النّفاقُ
تخُلو مَنْ الرّجولةِ وَشَجَاعَةِ الفُرسانِ.
……..
كتَمتُ مَعَ إخوتي العراقيّين
صَهِيلَ النّجوى
ورفعنا لّله ربِّنا الشّكوى
فلِمَنْ نشكي
ألحاكمٍ أمريكيٍّ
أو لسفيرٍ إيرانيٍّ
أَمْ لتبعيٍّ مُوالٍ
يَحْكُمُوننَا فِي بَيْتِ الطَّاعَةِ؟!
أوَليسَ القاضِي والجاني
هُمَا راعيينا وواليينا!!!
……..
ولأنَّ الرّجلَ الحُرَّ حُرٌّ
حَتّى فِي أحلكِ المواقفِ
وَجَدَتَني بصَقَتُ فِي وجوهِهم
وابلًا من البصقاتِ
وَأَدَرتُ لَهُم ظَهْرَي
مُوَاصِلاً سَيْري للأمَامِ
بَيْنَما هُمْ
ظَلَّوا يتعقَّبَونني بِنَظَرْاتِهم الذَّلِيلةِ!
……
وعندما نَعَى النّاعون الفُرْسُ بلدًا
وَهُوَ فارِسُ البُلْدَانِ
اِنتَكَسَ الرُّوحُ
عَلَى وَطَنٍ مُحارَبٍ
نَفَذَت عَنْهُ أَدَواتٌ الْقِتَالِ
فرَثْيتُهُ بِالدَّمُوعِ وَالصَّلَاةِ
فهُما أَنْبُلُ المراثِي.
…………
لَقَدْ مَاتَ أعْزَلَ دُونَ أنْ يُهزَمَ
فَخَطَّ الدَّمْعُ نَثْرًا
عَنْ أدَبِ الاِفتِقَادِ
فِي زَمَنٍ
تحجّرت فِيهِ المآقِي
وَلَمْ تكن دُموعي
سِوَى صوتٍ فِي الزّحامِ!!
……..
أجَلْ بكَيتُ فأبكَيتُ؛
بكَيتُ عراقًا
لاَ يَلِيقُ بِهِ الْبُكَاءُ والرِّثَاءُ
فُجِعْتُ بِمَمَاتِهِ
وَضَعُوا فوقَ قَبْرِهِ
نصبًا حجريٍّا مِنَ الرّخامِ
محفورًا عليهِ اسمُهُ
وتاريخي ميلادهِ ووفاتهِ وكُلَّ أمجادِهِ
لَكِنَّ الزّهورَ
لَمْ تَكُنْ تحيطُ بهِ
لَأَنَّ الوُرْودَ الْعِراقِيِّةَ
الَّتي لطَالَمَا مقتتِ الموتَ
مَاتَت اِخْتَنَاقًا برائحةِ البارودِ!!!
…….
إنّهُ العِراقُ يا قارئيَ العزيز
المقابرُ آخر ما تبقّى مِنْهُ وفِيهِ
رفقةُ أرجوحةِ طفلٍ
مُقيّدةٍ بَيْنَ نخلتينِ محروقتين
غَيْرَ إِنّنا أضعَنا شاهدةَ قبرهِ
فِي زحمةِ الشُّهداءِ!!.