قراءة نقدية في مجموعة ” أساطير الأولين ” لـ ” عبد الغني سلامة “

عزيز العصا | معهد القدس للدراسات والأبحاث | جامعة القدس

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com 

يتجول بين الواقع والأساطير؛ فيبث فلسفات ويثير أشجانًا

عبد الغني سلامة؛ كاتب ومفكّر فلسطيني، عرفته في وزارة الاقتصاد مختصًّا في واحد من العلوم البحتة “الكيمياء الحيويّة”، وقد جاء بعلمه هذا من عراق العلم والمعرفة، فأدار في وزارة الاقتصاد مختبرًا لفحص الأغذية، ليستخرج الفاسد منها ويلقي به بعيدًا عن مجتمعه. وعندما أمسك عبد الغني بالقلم وقرّر أن يكتب في الإنسانيات، بعيدًا عن العلوم البحتة وتعقيداتها، كتب في السياسة والفكر والأدب، كما يكتب في القصص والنقد. وله صولات وجولات في هذا كله.

أما الإنتاج الأدبي لـ ِ”عبد الغني” الذي نحن بصدده، فهو مجموعته القصصيّة “أساطير الأولين”؛ وهي قصص قصيرة صادرة عن مكتبة كل شيء حيفا عام 2020. توزعت هذه القصص، وعددها (20) قصة منفردة ومجموعة قصصية، في كتاب يتألف من (263) صفحة من القطع المتوسط، وآخر قصة منها جاءت بنفس عنوان الكتاب “أساطير الأولين” وهي بحجم (13) صفحة.

إن قراءة متمعنة لهذه القصص، تضعك أمام حديقه فكريّة متنوعة الاهتمامات والفلسفات والرؤى؛ إذ تمتدّ أحداث هذه القصص بين واقعنا الملموس وعمق التاريخ، إلى ما قبل الميلاد بكثير فيبدؤها بقصص داخل فلسطين “حوار سريع على حاجز طيّار”، ثم يصف “رحلة بين رام الله وصفد”، وفي هاتين القصتين وصف جغرافيا فلسطين الجميلة، ذات الأشجار الكثيفة والنباتات المتنوعة، بأجمل وأبهى حلّة، وهو ما يطلق عليه “التنوع الحيوي”.

وأما الجانب المؤلم من واقع فلسطين، فهو تلك الحواجز التي تعد بالمئات في أرجائها، وصف “عبد الغني” ما يجري على واحد منها، يسيطر عليه جنود يعاملون الشعب الفلسطيني باستخفاف واستهتار، وإذا احتج أحدهم على ذلك يتلقى العقوبات الصارمة والمهانة والشتائم.

وفي قصة “وصية الحلبي الأخيرة”، و”سمارة، قصة دار فور” وصف دقيق لما يجري في عالمنا العربي المعاصر من امتهان لكرامة الإنسان على أرضه، من قبل عصابات تدّعي الانتماء للدين أحيانًا وهي تمارس الشذوذ الذي لا علاقة له بالإسلام ولا بغيره من الديانات. وإن ما جرى للحلبي “علي بكار” وزوجته اللذين انتحرا لحماية كرامتهما، قبل أن تمرّ عليهما تلك العصابات بوحْل أحقادها وأفكارها الشريرة، وما جرى في دار فور من اغتصاب وقتل بشع على أيدي جهلة يحملون السلاح!

ثم ينطلق عبد الغني خارج الوطن، نحو الصين وأمريكا وإيران، وصولًا إلى الفضاء. ثم يعود إلى اليابان ومصر لينتهي الأمر به مع أساطير الأولين الممتدة إلى ما قبل التاريخ.

ومن بين هذه القصص هناك مجموعة قصصية بعنوان “حسنين” تضم (11) قصة قصيرة، بحجم يساوي ربع حجم الكتاب بأكمله، يتتبع فيها يوميات عدد من الشخصيات، من صعيد مصر، مكثفًا الأحداث في بلدة تقع على نهر النيل أطلق عليها “أخميم”؛ وهي تلك البلدة الوادعة التي أعدّها المقريزي من عجائب الدنيا الثلاثين، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون ويتزاوجون. ثم يصل سوهاج وغيرها من بلدات صعيد مصر.

تتميز مجموعة قصص “حسنين” بأنها تصف واقع المجتمع المصري في هذه الجغرافيا، والعلاقات الداخلية بين أبناء الشعب الواحد، لا سيما زواج “برعي” من “مديحة” المسيحية، والقيادات المحلية التي تتمتع بسمات وخصائص لا تخلو من البساطة أحيانًا أخرى، والعنجهية والتسلط أحيانًا أخرى، كما يبرز فيها دور الشيخ وأهمية عمامته وأحاديثه في الوصول إلى أعماق المجتمع. ولا يخلو الأمر من القتل والغدر والتآمر؛ مثل: برعي الذي قتل زوجته بعيد إنجابها لطفلهما.

وهناك مجموعة “أساطير الأولين” التي تتألف من خمس قصص قصيرة، هي : “الأم جمالات” و”إله الشمس”، و”الطوفان”، و”القيامة” و”أساطير يونانية”. وعند الغوص في أعماق هذه المجموعة تجد أنها تتكامل، فيما بينها، في وصف أساطير تتعلق بالمرأة، والآلهة، والبحر، وغيرها. وما يحيط بهذا كله من صراعات وسفك دماء ظلمًا، ولعل أبشع هذه المشاهد قتل غزالة وهي ترضع طفلًا لإنقاذ حياته.

إن القارئ لهذه المجموعة القصصية يخرج بمستوى من المعرفة والثقافة التي تجعله على دراية بالأحداث التي تجري على سطح هذا الكوكب؛ لما تميزت به من تنوع في الجغرافيا والثقافات والعادات التي تناولتها. إلا أن أجمل ما لفت نظري في هذه المجموعة تلك العبارات ذات الأعماق والأبعاد الفلسفيّة، التي مرّرها الكاتب، مثل:

  • في مجال الموت، نجد أن “علي بكار” الذي مات انتحارًا هو وزوجته خوفًا من البطش بهما، يقول: “أنا سأموت، ولكني لن أنس” (ص: 25)، كما يقول: “الموت كائن بشع، متجبر، إنه أقوى منا جميعا، وهو الشيء الوحيد الذي لم يغلبه الإنسان” (ص: 26). ويصف بكار فلسفته في الانتحار هذه بالقول: “ستسامحني ماجدة، لأني ضمنت لها نهاية هادئة، بلا دماء، ولا أشلاء، ولأننا سنموت جنباً إلى جنب، بكرامة وكعاشقين” (ص: 28).
  • وفي وصف الجوع المفضي إلى الموت يقول: “ليس كمثله شئ، إنه الذل والهوان وانكسار الأمل” (ص: 40).
  • وهناك زخم من العمق الفلسفي كرّسه “رامي” بطل قصة “برقيات عاجلة من الفضاء” الذي يبرق برقيات مشبعة بالفكر والفلسفة والانتماء إلى الوطن “فلسطين”، ويقول في لحظة وجوده في المركبة الفضائية: “من الصعب العيش في ظل انعدام الجاذبية، ولكن الأصعب العيش في ظل انعدام الحب” (ص: 79).
  • وفي اليابان يقول: “أن اليابانيين بعد أن وقّعوا حيز الاستسلام بعد الحرب العالمية الثانية جعلوا الدين خلفهم وانطلقوا نحو المستقبل” (ص: 146). إلا أنه في موضع آخر يقول: “في اليابان تعثر الشرطة أسبوعيًا على عشرات الجثث المنتحرين، تجدهم على أطراف الغابة، أو على قارعة الطريق، وداخل الشقق” (ص: 122).
  • وفي الحبّ، ورد في قصة “مديحة”: الحب كيمياء مشتركة بين شخصين، روحان تغادران جسديهما على عجل، فإذا التقتا تآلفتا (ص159). و”الحب مثل نار؛ يلزمه شرارة، إيماءة، أو نظرة، لتبدأ الحكاية” (ص: 160).

بقي القول، جاءت الغالبية العظمى لهذه المجموعة القصصية مفتوحة النهايات؛ وكأن الكاتب يدعو القارئ لأن يشاركه في النص ليكمل تلك النهايات أو يتنبأها، علما بأنه حدث في المجموعات القصصية أن المشهد اكتمل في القصة التالية، كما هو الحال في مجموعة “حسنين” التي بدت وكأنها نص روائيّ متسلسل الأحداث والمشاهد!

هذه هي مجموعة “أساطير الأولين” القصصية للقصصيّ “عبد الغني سلامة”، لتضاف إلى قائمة إبداعاته القصصية التي قُدّر لي متابعتها، لتشكل، في مجموعها، رصيدًا معرفيًّا وثقافيًا يُضاف إلى المكتبة الفلسطينيّة، وإلى المكتبة العربية بشكل عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى