تهويمات في الساعة الهامدة من الليل.. في الفضاء
فايز حميدي | شاعر وكاتب فلسطيني مغترب
كان ذلك منذ ربع قرن من الزمن. وأنا أنظر من نافذة الطائرة بعد أن صعدت بنا إلى علو شاهق…..أرسل صاحبي اللدود زفرة طويلة تحرك سفينة شراعية من مكانها، وقال في لحظة إلهام شاعري:
انظر ، إلى هذه المدينة العربية، كيف تبدو من الفضاء، حدائق، وبساتين، و أنوار متلألئة، وأبنية سامقة، جمال ما بعده جمال …وعلى الأرض أزقة، وأوحال، وعسس، وسجون، وسكارى، ومتسولين، بؤس ما بعده بؤس… إن للإنسان العربي منذ أن وجد وحتى الآن مسكن واحد اسمه: الحزن.. والقهر.. والجوع
قلت :
كتب ذات يوم برتراند راسل: (إن الامة التي تنام هي أمة لا يحق لها حمل هويتها والانتساب إلى ماضيها)
رد بصوت خافت، وفي وجهه سحابة غضب:
وهل استيقظنا في الأصل حتى ننام ؟
قلت:
دعنا من هذا الحديث الناكئ للجراح، ودعنا نستمتع بجمال اللحظة: انظر إلى تلك الفتاة البارعة الجمال، التي ترتدي ثوبا من الحرير الأسود، إنها ذات جمال صارخ ، انظر إلى وقفتها واعتدادها بنفسها!
تجاهل صاحبي حديثي تماما ، وأكمل مستطردا بصوت كئيب:
كتبت يوما قصة قصيرة عن أناس لديهم طائر جارح (الطائر الحر)، ضاقوا به وبمتطلباته واحتياجاته فأخذوا يقصون من جناحيه ومخالبه ومنقاره حتى حولوه إلى طائر ، يشبه طائر الزرعي (طائر جبان ،يفر من أدنى صوت يصل إلى مسامعه).
وأنا أرى أن جيلنا والأجيال السابقة واللاحقة، قد تعرضت لهذه القصقصة العجيبة، فتحول بعضنا إلى طائر سنونو ، وآخرون الى صيصان لا تستطيع حتى أن تطير.
ولجأت الشعوب العربية المقموعة إلى لغات جانبية تعبر فيها عن خطابها الحقيقي، وهو غير الخطاب المعلن الذي ينم عن الرضوخ، فتخلق من محنتها موروثا خفيا خارج المسرح الرسمي، القائم على علاقات القوة، فتظهر توريات لغوية، وتسميات يتم التوافق عليها، تعبيرا عن حالات الرعب الشديد.
يذكرني ذلك برجل الحاشية، الذي يسميه الكاتب المبدع وليم شكسبير (الرجل – نعم) في مسرحية هاملت، الذي يطيع ويوافق دون تفكير، ومن دون اهتمام بملاحظة أنه قد يوافق على الأمر ونقيضه …..
ظاهرة أخرى اسميها ( الكلمنجية):
وهؤلاء الذين يلفظون الكلام ولا يقولونه، وهم ظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية ودينية.. هؤلاء يحيون المناسبات المتنوعة (إعلامية، واجتماعية، وسياسية)… هؤلاء احترفوا وقفة المنابر، واحترفوا أن يتحدثوا طويلا، ولا يقولوا شيئا…إنهم بلا عواطف، ترى على وجوههم ذلك الحياد السلبي الذي تراه في وجوه عارضات الأزياء.
يبدو أننا تشوهنا من الداخل إلى درجة بعيدة….إنها أمة تعاني من ألم الاحتضار….
وسرح صاحبي في خياله بعيدا ..
محبتي
(القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية).