الباشا الوزير .. لا يُصافح بيَدِهْ !!
أمير شفيق حسانين| مصر
يُحكي أن أحد وزراء مصر الراحلين ، أصبح نائباً برلمانياً عن إحدي دوائر المنوفية، حيث مسقط رأسه، بدعم من الحزب الوطني الديمقراطي البائد، وكان ذلك الوزير ذو حظ عظيم، بتقوية وضعه السياسي ومكانته الدبلوماسية كأحد رجال الدولة البارزين وكواحد من أمهر الوزراء المُخضرمين في أكثر من حكومة متتابعة، وفي أكثر من عصر رئاسي ، وللأمانة نذكر أن هذا الوزير البرلماني كان حكيماً، خدوماً لأهل دائرته، حلالاً لمشكلاتهم، ولذا ظلَ متربعاً علي كرسي برلمان الشعب منذ أواخر السبعينيات وحتي عام 2000 م .
ولكن ما أصابني بالدهشة، ما حكاه لي أحد أصدقائي، أن والده ذهب يوماً ما، ضمن وفد من رجال قريته في زيارة لمنزل معالي الوزير بالقاهرة ، ليطلبوا مساعدتهم في حل مشكلة تخُص قريتهم، وحينما وصل الوفد لمنزل الوزير- نائب دائرتهم – قابلهم سكرتير الوزير بلهجة تملئها الحذر، قائلاً: “لو سمحتم.. الباشا هينزل بعد شوية.. وسيادته مش بيسلِم بإيده.. هو هيدخل عليكم.. هتقوموا تقفوا.. بعدين هيقول سلام عليكم.. وبعد ما يقعد هتقعدوا.. وبعد ما تخلصوا كلامكم معاه.. هيقوم سعادته.. وبعدين هتقوموا إنتوا تخرجوا.. بدون سلام بالأيدي برضو!!”.
كان لهجة سكرتير الوزير صادمة لآمال أهالي الدائرة، فالرسالة حملت شيئاً من التقليل من شأن ضيوف الوزير، بل إنهم ليسوا ضيوفه وإنما أهله وعشيرته الذين إختاروه وعلتْ أصواتهم مُؤيدة له كنائب لهم.. أيكون جزاء الفضل هو المعاملة الجافة والإستقبال الخالي من الحفاوة والمنافي للتكريم؟!
هل بعدما أعطي جلالة الوزير من طرف لسانه حلاوة لأهالي دائرته، حتي نال مُراده وصار فارساً بالبرلمان الآن يخلع الوزيرالدبلوماسي رداء التواضع، ليُعلن أن تقاليده وأعرافه تُلزِمُه بالغطرسة والتعالي بصفته واحد من سادات الدولة وكبرائها ؟!
هل يُعْقل أن يرسل حضرة الوزير برسول إلي وفده قُبيل لقاءه بهم – وهم داخل بيته وفي معيَته وضيافته وحمايته – ليُنبههم بألا تأخذهم الأماني تجاه مُصافحة يد الوزير.. ولا داعي لأن يمدُوا أيديهم فتُرد إليهم دون مصافحة ، فيُصيبهم الحرج الشديد.
ومع مرور الأيام، ترك وزير الملامح الهادئة، جميع مناصبه السيادية، بعد أن تنقَل بين ثلاث وزارات مختلفة منذ عام 1978 م وحتي أواخر التسعينيات، مُعتزلاً الحياة السياسية نهائياً ، بما فيها عضوية البرلمان ، بعدما أدركته أمراض الشيخوخة.
وذات مرة زار الوزير السابق قريته بالمنوفية، كي يُدلي بصوته بلجنتها الإنتخابية، وحسبما حكي لي أحد الذين تواجدوا داخل اللجنة وقتها.. أن الوزير السابق بدي طاعناً في السن، مرتعش اليدين، من أثر الهِرمْ والوهَنْ اللذَين تملكا من جسده وصحته.. إلا أنه في تلك المرة ، قام بمُصافحة الموجودين باللجنة الإنتخابية دون إمتناع ولا تكبُر ولا تجبُر. ويا للعجب.
فعندما كان الباشا الوزير مُتمتعاً بعافيته، مُغتراً بسلطته وسلطانه ، مستأنساً بحصانته الوزارية والبرلمانية ، ترفَع وقتها السيد الوزير عن مُصافحة أهل دائرته، وكأن المصافحون له كانوا سيقتطعون قطعة من يده فتُرَدْ إليه وهي ناقصة.. أو أن يد الوزير كانت ملفوفة بالحرير والديباج ، وأيدي ضيوفه كانت تنبعث منها الأشواك ..ولربما أن الوزير لجئ لهذا التصرُف وقتها كإجراء أمني أو كروتين يتعلق بحمايته وسلامته بحُكم منصبه السياسي الرفيع ؟!! أما حضرة الوزير، فعندما بلغ من الكبر عِتياً ، وإنطفئ بريق السُلطة من بين عينيه ، وبات واقفاً علي أعتاب دُنياه ليستقبل أجل الله ، إذا به يتراجع عن أعراف الغرور المقترنة بالسُلطة والنفوذ ، وإقتنع بأن التواضع لله ، وأصبح الوزيرالمُصافح للأمير والأجير.
رحم الله الوزير الخدوم المجتهد، إبن المنوفية – ومحافظها الأسبق – والذي رحل عن دُنيانا منذ سنوات .. ولم يدُم له متاع الدنيا ولا زينتها ، حتي يده التي لم يُصافح بها البُسطاء يوماً ما، أكلها الدود وأصبحت لاشيئ .. فإعتبروا يا أولي الألباب !!