حكايا من القرايا.. ” سقف الخشّة “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
– يمّا سقف الخشّة بنقّط ميّ… يمّا مش عارفين انّام… اللحاف غرق… وراس أحمد مبلول… خليل اليتيم الأكبر يناجي أمه منتصف الليل…
– يمّا والله طيّنت سقفها قبل المطرة بتراب وتبن… وحطّيت ع السقف لوحين زينكو…
حركت الأم الفرشة… فرشة اليتامى وجنبية جنبها، ثلاثة أولاد وأمهم ينامون بالعرض… حتى يتسع المكان… حركت أم اليتامى – هكذا يسمونها في القرية – الفرشة وأبعدتها عن سقوط النقط… لكنها لا تستطيع في هذا الليل الأسود الماطر أن تمنع الدلف… تناولت عن الرف الطينيّ طنجرة الطبخ ووضعتها تستقبل ماء السقف… وتشكلت سمفونية ليلية عجيبة من صوت قطرات الماء وهي تصافح الطنجرة…
وفي الصباح الباكر، تناول خليل وأخواه ما قسم الله لهما من كسرات خبز شبه جافرة، بللتها الأم بالماء، وسخنتها على البريموس، وغمستها بزيت وزعتر… وتفاجأ اليتيم الأصغر صالح بأن كيسه المدرسي مبلول… لكنه اطمأن وحمد الله، لأن البلل لم يصل الكتب والدفاتر بشكل كبير، فما زالت صالحة للقراءة والكتابة عليها…
كانت أم خليل تعمل مياومة مع الناس، وتزرع حاكورتها صيفاً خضروات يحتاجها البيت، كان في الحاكورة شجرة تين وشجرة توت، يأكلون ثمارها، ويتفيؤونها صيفاً… أم اليتامى تعمل مع الناس في أراضيهم، تزرع وتعشّب وتحصد… وتأكل من تعبها، وترفض صدقة الموسرين، وترفض الفطرة، لكن الناس كانوا يصرون على مساعدتها فيرمون ما أرادوا أن يتصدقوا به على أرضية مصطبة الخشّة ويمشون سريعاً، قبل أن ترد الأم هذه المصاري التي تذكّر بالفقر واليتم ووحشة الحياة…
أم خليل كانت تقص على اليتامى قصص العمل والجد… حكايات فيها سلالم للصعود للأعلى… تتخيلهم وقد أصبحوا شباباً… ودرسوا وتعلموا وتسنموا مناصب عالية، وبنوا دورهم… وهذا يدعوها لبيته، وذاك يشحطها ويسحبها غصباً عنها لمائدته، وهي تتدلل بين أحفادها وكنائنها… يحفظ اليتامى قصص أمهم… ويتخيلون أنفسهم، وقد أعتقوا من فقرهم… ويتمهم… وودعوا هذه الخشّة التي لا ترحمهم صيفاً ولا شتاءً… ويحفظوا دروسهم كل ليلة… يدرسون وهم على فرشة النوم، حول نوّاصة تهديهم الضوء… يقرؤون ويكتبون… وبالكاد يرون الحروف…
عندما انتهى الشتاء، وشمّست الدنيا، ودبّت الحرارة في الأرض، سمع صالح صوتاً غريباً في الخشّة، سمع طقطقة خشب السقف… كانت أمه وأخواه يتشمّسون في الحاكورة… أسرع إليهم… وما أن وصل… حتى قال السقف يا دايم… انهدّ سقف الخشة… ارتعب اليتامى… برباطة جأش استقبلت الأم الحدث، وابتسمت تطمئن أولادها، وقالت: الحمد لله على سلامتنا، لا تخافوا، كل شيئ يتعوض، سنعيد بناءه… هبّ الناس يساعدون في تعزيل السف ونقل الأغراض إلى بيت (أبو أسعد) الذي تكفل باستضافتهم… وانقسم الناس بين جالب للتراب والتبن وجابل لهما… وبين ترتيب أخشاب جديدة للسقف، وبهمة الجماعة أصبح السقف جديداً…
وعاد اللاجئون اليتامى إلى بيتهم…
عندما عاد خليل إلى البيت يبشر أمه بنجاحه وتفوقه… كانت أمه تعكف على عجينها، تركته ويداها مغطيتان بالعجين، وهاهت… وزغردت طويلاً… والتمّ الناس يأتون بهدايا الحلويات والسكاكر ويباركون… وبعد أيام من الفرح، راحت السكرة وأجت الفكرة… كيف سيكمل تعليمه؟ ومن يتعهد معيشة أخويه؟ الله، الله الرازق قالت في سرها… يا حرام، حتى هي بدأ نشاطها يقلّ في الشغل… بدأت تكبر…رآها خليل واجمة فقال: سأعمل… يا أمي… انت الآن ارتاحي… يعطيك العافية وأنا سأقوم بالحمل… لا تنهمّي ولا تنغمّي… ابتسمت ابتسامة زينتها الدموع، وقالت: والله لو بقطّع حالي إلا أعلمك يا خليل… وسأعلم إخوانك كمان… أنا أم خليل… أنا أم خليل… أنا أم اليتامى… وازدادت دموعها هطولاً…
( للحكاية بقية… )