النضال الكلامي والاستعراضي
نهاد أبو غوش | عضو المجلس الوطني الفلسطيني
تعرض الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، لموجات متوالية من التعليقات الساخرة والناقمة من جهة والحاسدة من جهة أخرى. وكثير من هذه التعليقات صدرت عن فلسطينيين وعرب ومظلومين كثر في هذا العالم، لسبب بسيط وهو أن هذا الدبلوماسي الدولي الرفيع المستوى، لا يفعل شيئا بحسب الناقمين عليه سوى “الإعراب عن قلقه” إزاء ما تتعرض له البشرية من حروب وكوارث وانتهاكات فظة لحقوق الإنسان، ومع ذلك فهو يتلقى راتبا كبيرا جدا، وامتيازات هائلة.
والحقيقة أن السيد كي مون ظُلم بهذه الموجات من السخرية، فهو وكذلك خليفته غوتيرتش، وأسلافه جميعا لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا سوى ما تتيحه لهم صلاحياتهم وحدود تفويضهم وموازين القوى الدولية التي تتحكم بمؤسسة الأمم المتحدة، فضلا عن أن راتبه ليس خارقا للمألوف، فلدينا هنا في فلسطين رواتب أعلى منه، أما الطامة الكبرى فهي أن لدينا بعض القادة والمسؤولين لا يفعلون شيئا سوى “التعبير عن قلقهم” أو عن غضبهم أو احتجاجهم أو عن شيء من هذا القبيل.
كان يمكن احتمال هذا النمط العقيم السالف ذكره لو كان مجرد حالة أو حالات فردية نادرة، لا تلبث أن تضيع في زحمة التيار الرئيسي العام، لكن أن يتحول جزء كبير، من جهود قوى وفصائل وقيادات سياسية متقدمة إلى هذا اللون من العمل الشكلي، والكلامي، والاستعراضي والموسمي المتقطع، فهذه مشكلة كبرى تتصل، من دون مبالغة، بمصيرنا الوطني ومصالح الشعب العليا.
لدينا مسؤولون، لا يملّون أبدا من إطلاق التصريحات، وهي في الشكل والمضمون استنساخ معدل قليلا لتصريحات سابقة لهم أو لغيرهم، الفارق الوحيد هو المناسبة والتوقيت، بينما يتم تكرار واجترار نفس الكلام وذات المطالب من قبيل التنديد بما تقوم به قوات الاحتلال، وشجب ما يقترفه المستوطنون، وإدانة المواقف الأميركية المنحازة لإسرائيل، وإذا شاء أصحابنا أن ينوّعوا قليلا فهم يدعون المجتمع الدولي، أو الأمم المتحدة، للتدخل من أجل وقف الاعتداءات الإسرائيلية، أو دعوة الشعب للتوحد في مواجهة المخاطر والتحديات.
تتشابه مع هذه المواقف النمطية، والتي يمكن توقعها دائما بعد كل حادث وانتهاك وتصعيد، فهي مواقف تميل إلى تتبع وملاحقة ما يقوم به القادة الإسرائيليون والأميركيون، وما يصرحون به من أجل التعليق على تصريحاتهم والتنديد بها، على طريقة الأعرابي الذي أوسع من سرقوا إبل قومه شتما، لكن السُرّاق فازوا بالإبل.
في الظروف الطبيعية، لا شك أن للتصريحات والمواقف المعلنة وظائف مهمة ومعروفة، من قبيل تعبئة الناس وتوعيتها وتوحيدها، وحشدها في اتجاه معين للعمل، لكن أن تكون التصريحات هي الهدف والغاية في الوقت نفسه، وهي البديل عن الفعل والعمل، وهي السبيل الوحيد لإثبات الوجود على قاعدة “نحن هنا”، ففي ذلك امتهان للعمل السياسي عينه وللوظائف التي يتقلدها هؤلاء المسؤولون.
وشبيه بالكلام الذي يطلق من دون حساب ومن دون أي كلفة، وبالتالي يكون بلا أي أثر، هو ذلك العمل السياسي الاستعراضي، أو التظاهري والرمزي، الذي يضيع تأثيره لمجرد انقضاء وقته، ولا يساهم في أي بناء تراكمي، ولا يرفد أي مجرى أو تيار عريض للنضال والعمل السياسي، وإنما هي أعمال منفردة ومتقطعة وموسمية، كأن الغاية منها هي ملء الفراغ أو إقناع الذات، ومن نماذج هذا العمل ما يغلب على فعاليات إحياء المناسبات المختلفة، سواء الأممية العامة كيوم المرأة والعمال، أو الوطنية، أو الفصائلية الخاصة، وكذلك بعض الفعاليات التظاهرية التي تكتفي بالتقاط الصور سواء للفضائيات أو لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعرض بعض القادة أسبوعيا صورهم وهم يصرخون على الجنود، أو يتحركون وسط سحب الغاز.
لقد غابت الحرارة والحيوية عن معظم هذه المناسبات، وتحولت إلى تكرار مألوف لما جرى في سنوات سابقة، ويكاد الأمر ذاته ينطبق على الطريقة التي نواجه فيها التحديات الجسام، من خلال جمع وتحشيد المئات من الناشطين، وتنظيم مهرجانات خطابية يعيد فيها المتحدثون ترديد الشعارات المعروفة للجميع.
في مراحل تاريخية نعرفها جميعا، وبخاصة خلال الانتفاضة الكبرى أو الأولى، كان مجرد توزيع بيان سري، أو الكتابة على الجدران، أو المشاركة في جلسة أو مسيرة حتى في قرية نائية، يعدّ إسهاما مهما في مسيرة الثورة والشعب، كان الكل يشعر في أعماقه أنه يساهم مساهمة فاعلة في العمل التراكمي العظيم، الأسير في سجنه والمعلمة في مدرستها والعاملة في مشغلها والمناضل في خندقه، كل فرد يقوم بحصته التي تتكامل مع ما يقوم به الآخرون لأن البوصلة محددة والوجهة واضحة، بينما الآن لا يعرف حتى السياسي المسؤول إلى أين المسير، لذلك يستعيض البعض بما ينبغي عليهم القيام به بأدوار استعراضية وشكلية بدل مهماتهم الحقيقية التي تتمثل في تحديد الوجهة وحشد الطاقات وتعبئة الناس وإقناعها بالعمل في الاتجاهات المطلوبة.
مهمات القادة هي قيادة الناس وتوجيهها للعمل وليس العمل نيابة عن الناس، وليست مهمات الأحزاب والفصائل النضال نيابة عن الشعب بل توعية الشعب وقيادته للنضال، أما التصريحات اليومية المكررة فإنها تصبح ممجوجة وسلبية الأثر إذا كانت بديلا عن العمل الفعلي ومحاولة للتعويض عن غيابه.