تهويمات في الساعة الهامدة من الليل.. دمشق أرملة الفرح المقتول
فايز حميدي | شاعر وكاتب فلسطيني مغترب
في ذلك اليوم الدمشقي البعيد ، انتعش قلبه وأسكره الأمل …. كان نهارا كالحلم .
البلدة القديمة مفتوحة للشمس ، تضج بضحكات الناس وصيحاتهم وهرجهم حول أكشاك المثلجات والأطعمة .
كان الفرح والبشر طافحا على الوجوه والنور والدفء يغمر الطرقات والحدائق … وفي الأعماق جدولا جاريا وإن بدا رفيعا وشجيا ، كان جديلة من الحزن .
في هذه المدينة شيء ما يجعلها حزينة دوما ، حتى وهي في أقصى لحظات الفرح …
اليوم ، بعد سنوات من أزمتها الطاحنة ، بدا منهكا وممزقا ومبعثرا …تمدد فوق السرير ينظر الى اللاشيءبعد ان تهاوى كل شيء .
التاريخ رجل عجوز ينطق بالأمس ،وعندما يطول الانتظار يهترئ كل شيء ….حتى ذاكرة المكان تشيخ وتتغير الأشياء ، لكن الذاكرة تأبى النسيان .
المرء ابن التربة التي أنبتته والهواء الذي تنفسه … وفي فوضى وعماء الأشياء وتجهمها يوقظ الحنين إلى أشياء أخرى ، وتوغل في غابات الحلم …ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان .
هل كانت شريعة حمورابي لا تليق بالناس العزل وأن اسلوب المسيح وغاندي هو الأمثل في مقارعة الظلم وقهر إنسانية الإنسان ؟
ليس بوسع المرء ان يفهم قاع دمشق إذا لم يعش في أحياءها الشعبية … إنها المزيج المتفجر من الصحو والهذيان والقسوة والحنان ….
أخذته لحظة شرود إلى هناك ، إلى منبت الصبا وريعان الأحلام …
عذرا يا صاقل الماس* قلت يوما :
(في دمشق ينام الغريب على ظله …) .
في دمشق ترى زحام الوجوه المتعبة البائسة فوق أجساد ترتدي ثياب رثة ..بشر يحملون الأثقال في قلوبهم ، ومناخات اختناق عام وانكسارات شخصية في هذا الزمن الذي يتداعى فيه كل شيء ، ويفقد فيه الناس مقومات وجودهم .
تجد الناس لا يمرضون نفسيا فرادى بل جماعات كانعكاس للزمن المريض .
في وسط الزحام تجد نفسك واحد من الرجال المجوفين ، تنظر اليك العيون بصمت منكسر ، ألم سببته القسوة البشرية :
الفقر ، البؤس ، الإرهاق المزمن ، الخوف ،انسحاب القيمة … بشر يسكبون ماء أرواحهم ويشقون بحثا عن عمل وطعام يسدون به رمق أطفالهم ، يعيشون في أشباه منازل لا تمتلك مقومات الحد الأدنى من الحياة والكرامة الإنسانية …
في دمشق يظل الغلاء الفاحش بين الناس وبين التحامهم بمدينتهم التي عشقوها ، مثل حبيب لم يعد يعرف حبيبته جيدا ، لكنه يعي إيقاعها ولديه حس غامض بنبضها يتسلل ويسبح داخل شرايينه رغم كل شيء ….
في دمشق تجد تراجع قيم اللطف والتعاطف الإنساني العفوي لحساب الأنانية والغطرسة والتشاوف واللامبالاة …وفي المقابل تجد البعض هم ملح الحياة يصبون بلطفهم وتدفقهم الودي نحو الآخرين في الدورة الدموية الروحية البشرية ، ويحسنون نوعية الحياة فيجعلونها أقل قسوة ويمارسون ذلك بصورة طبيعية كما لا تملك النحلة إلا ان تضع العسل ….
دمشق مدينة المفارقات والتناقضات حد اللامعقول … إنها مدينة السعادة القلقة .
في دمشق يستنزف المرء كل ما لديه :
الصبر ، الأحلام ، الطموحات ، الحب حتى الحزن والغضب …ولم يعد لديه ما يقدمه لأحد .
بعيد العصر في خريف عام الفين وثمانية عشر ، بدت دمشق مرورا بالزاهرة والصناعة وحي الأمين والبزورية وصولا الى مقهى النوفرة …
رياح خريفية باردة تنفخ في أوصال شوارعها ، ومطرها هادئ كئيب يقطر من عيون مساءها دونما صخب ، وخلف المطر بدت دمشق مساء بأضوائها الخافتة المرتجفة زائغة شبه هاربة والمطر يطاردها برذاذه الكئيب ..
دمشق عراقة وتاريخ ، فيها كآبة مدينة عرفت السقوط أكثر من مرة ، وهدمت جزئيا أكثر من مرة ، واستطاعت أن تقف مرة بعد مرة …
الحزن الذي يقطر من دمشق الجريحة المتعبة حتى الموت حزن نبيل …وعلى الشجرة اليابسة لاحزانها غصن أخضر يعود إليه دائما طائر الحياة….
ترى ..ماذا تخبئ لك الأيام بعد يادمشق … يا أعز من أحببت .
دمشق أرملة الفرح المقتول سلاما …سلاما .
….
هامش:
صاقل الماس : الشاعر محمود درويش