سعدي يوسف ..الشفاهية تكرّر ايقاعات البدئية
ناجح المعموري | رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق
كان د. ضياء خضير ذكياً في اختيار النصوص التي وضعها في مرآة القراءة واعتقد بأنه نجح في التقاط النصوص التي فاضت فيها الشفاهية ولذلك عدة اسباب اهمها ان ضياء خضير ما زال مرتبطاً بحبل السرة المرتبط بالناصرية وكتابة الشاعر سعدي يوسف للنص الخاص بالناصرية ايقظ مجدداً الروح الغافية في الأنا / الذات المشمولة بالطرد ومعايشة الشتات منذ سنوات طويلة .
تتمتع الشفاهية بقوتها على التعايش مع الازمنة والتواريخ اعتماداً على الاغنية التي تكرّس بايقاعات الموسيقى التي ابتكرتها وابدعتها الجماعات الاولى وتعاملت معها روحاً مكوّناً لطقوسها اليومية المرتبطة بالحياة وتفاصيل التواصل المانح للأفراد والجماعات طاقة للمقاومة ومعاندة الصعوبات المستمرة . واتخذت هذه الشفاهية طابع التقليد المكرّس ، والحي ، النابض بعناصر التوثّب المتراكم في اعماق الجماعات عبر التتالي والتفاتة د. ضياء ليوميات د. اقبال واقتطاع نص ” يا شط …. عسنَّك ” ولع واضح بالينابيع الاولى التي عرفتها مرحلة البطء في التحّول والتي كانت مثلما معروف بالمدّونات ، معتمداً في مقاومتها على تقاليد الاغاني والرقص التي صارت جزء من الطقوس .
من تمثيلات الجماعة على معاندة المآسي وتعزيز الامكانات حتى تبدو الحياة مقبولة واستطيع ان اقول بأن الجنوب بما توفّر عليه من اليباس والطوفان مقبولة والاغاني فعاليات اشتركت الجماعات بكتابتها ووضع الايقاع لها والتشارك بترديدها . لذا انا اعتقد بأن العناصر التي حركت الكامن من العميق في روح الشاعر ، هو الذي ضغط على د. ضياء لاختيار نص ” للناصرية … ويا شط عسنَّك ” لأنهما يستعيدان زمن ما زال فاعلاً ومثيراً للحنين ، مثلما هو يستولد حنيناً للسلالة الاجتماعية التي كانت حتماً احدى العناصر ذات الفاعلية في التحفيز والمقاومة والحفاظ على التقليد / او الطقوس .
تبدو محاولة د. ضياء خضير جريئة في الاطلاع على مذكرات الفنانة د. اقبال ومتابعة تفاصيل هذا النص وتأثير المكان في انتاجه ، والمصاعب التي واجهت الشاعر في استعادة الماضي وشفافيته عبر هذه الاغنية المشحونة بالتوتر والاثارة . وما جعل من هذه المذكرات حقلاً ثقافياً عاماً وليس خاصاً بالسيدة اقبال انها جعلتها فضاءاً عاماً لمن يريد . والمثير هو اللحظات الصعبة التي واجهت كل من حاول ايقاظ الماضي من خلال ذاكرة الخزان البدئي . وواضح بان عدداً من الشخوص وهم / الشاعر سعدي يوسف ود. اقبال واناهيد هم تشاركوا باستعادة الماضي للحاضر والدفع به نحو مستقبل تتوفر له فرصاً أن يتحول نصاً كونياً وتذكر البدئية ولحظات التشكل يضفي حميمية التقليد والطقس على هذه الاغنية التي جعلا المرأة حاضرة بقوتها في انتاج ثقافي وفني . كلا النصّين ” للناصرية / يا شط … ” للمرأة دور فني ، بنائي في انتاجهما وابتكارهما وشحنهما بالطاقة التي تحفز من كان مقترباً من تقاليد الحياة الريفية والزراعية للتعامل مع النصفين بوصفهما من ذاكرة مشتركة . وكشفت تفاصيل مذكرات د. اقبال عن وضع الشاعر القلق ، والمرتبك وهو يحاول تحفيز الاستذكار من اجل استعادة الاغنية ، واعتقد بأن اصعب اللحظات واكثرها اثارة للحاجة . المساعدة للاستعادة وهو ــ الشاعر ــ موزع في اماكن عديدة وهي تراه في منزلة الانكليزي ومراقبتها لتفاصيل الحالة او الكيفية التي يكون عليها لحظة الولادة الحقيقية للقصيدة .
عاش الشاعر لحظة مخاض وارتباك ودندنة ارتفاع صوت وتوسل بآخر لالتقاط مفردة او اكثر رأته راكضاً ، مضطرباً ” هل تذكرين اغنية عسنَّك ؟ ”
التشارك في استعادة الاغنية تمثيل لإعادة ابتكارها مولوداً جديداً ، منح الحياة لحظة جديدة من اجمل ما يتعرف عليها المنفي المتوسل بحياة يريدها ولا يتمكن الامساك بها ، لكنه يرتضي بالذيول الفعالة المحركة لكل ما هو كامن في الروح .
استمريت في الدندنة محاولة تذكر بقية المقاطع ….” يا منك وهلة بيه يا كلها منك ” … لا ليس هذا ما اريد . قاطعني متوسلاً … ليس هذا ما اريد ، ان ما اريده من الاغنية ، طارت الكلمات من ررذهني … مقطع في الاغنية له صلة بالماء …!! اناهيد هي الشخص الثالث التي حفزتها المرويات . والدندنة هي الايقاع المحفز لطاقة التشارك والانتماء عميقاً لتقليد تحول الى طقس جمعي ” ميّك لحدر الساق يا شط عسنَّك ” .. حينذاك صرخ سعدي مصفقاً هائجاً ، فرحاً : ألم اقل لكم ان هناك شيئاً له علاقة بالماء في هذه الاغنية … الم اقل لكم ذلك وعلت ضحكاتنا … بعد ان انتهيت من حديثي التلفوني … ذهبت ابحث عنه . وجدته واقفاً محملقاً في الفراغ في ركنه وهو ينود بجسمه بصمت / ص150.
هذا النص جدد لدّى رمزية الماء لدى شاكر ولد في جغرافية مائية ، حتى تحولت المدن المائية التي ملأت خزان ذاكرته ولها تأثير فعال ، ظاهر ، مخزون ، صاغ بعضاً من المسكوت عنه ، لكنه لم يحتجب ، لان اللاوعي يقشّر المتراكم على الذاكرة ويستولد ما يريده الشاعر الذي قدمتّه د. اقبال كائناً صوفياً سأعود الى منطق الطير ، لان سعدي يوسف كائن طيري . مفردة صوفيّة ومغتربة مشّردة ، لا تستقر .
لكنه يعي أمميته ، لان الجغرافيات وطنه ، ويتعايش اينما يكون ، يمنح مكانه ، منفاه ملامح عراقيته ، والعراق مكانه الاول ويتعامل مع نفاياته جماليات تعيد صياغتها ضغوط الغربة ، وتطلقها طيوراً يتعايش معها ويتخيلها صبايا / اناثاً ونساء ، هذا النوع البشري المختصر بــ ” المرأة ” هو الذي فكك المقدّس وذهب لاختبار الجسد وامتحان الجسد الانثوي الخارق بمجازفته ، متحدياً صمت الاله واختار الحوار الذي ما زال ملاحقاً .
مذكرات د. اقبال كشاف عن حالة قلق انساني وهو يجاهد التقاط شذرات الماضي من خلال الخزان البدائي . وانا اعتقد بأن حالة سعدي ووحدته على الرغم من وجود اقبال واناهيد هي انموذج لصوت بدئي لا يقوى على التعايش اذا لم يقترب اكثر من الحالة الاولى ، البدئية المتاحة بالقلق والوحدة ، واغنية ” عسنَّك ” هي الصورة الكافية لاستدعاء الجنس ، لان صورة الماء في الشط ” ميّك لحدر الساق يا شط عسنَّك ”
الشاعر سعدي يوسف …. اكد على ان الكونية معبر عنها من خلال الماء واشرت انا الى يا سالم المرزوق وللناصرية و” يا شط عسنّك ” لكنه لم يكشف عن ” ماء القلب ” الرمز الذكوري العميق بكونيته لأنه يمنح السلالة امتداداً . الماء الذي انشغل به الشاعر هو ابتداء الحياة وهو مكونها . والحياة هي الماء ، والفيضان هو الرجل المانح للحياة قوتها . فالماء ذكورة وانوثة وكلاهما نتاج ماء القلب
الماء حياة ،
والحياة ماء
الماء ذكورة وانوثة
والحياة انوثة وذكورة
وسعدي يوسف يركض نحو رموز البدئية ، اختصر التعبير الفلسفي عن البدئية : ” ان الضيق اليائس ينشأ عن الافتقار للبدئية ، او عن حقيقة حرمان الذات عن بدائيتها ” والجنس اول فعل بدئي وضع الكائن امام ذاته .