قراءة في ديوان:”شذرات في شعائر الحلم” للشاعرة الفلسطينية وجدان خضور
من منشورات معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023
بقلم: سي مختار حمري | المغرب
ازدانت رفوف المكتبة العربية وعلى الخصوص منها الفلسطينية بمجموعة شعرية صدرت للشاعرة الفلسطينية وجدان خضور تنتمي الى أسلوب قصيدة النثر العربية الحداثية تحث عنوان : “شذرات في شعائر الحلم” عنوان افتتاحي للمجموعة مدهش ومستفز يشد المتلقي اليه ليطلع على ما جادت به قريحة الشاعرة بين دفتي الديوان .
عنوان يخيم بظلاله على مجموع قصائد المجموعة ويسمع له صدى تقريبا في كل العناوين
شذرات: جمع شذرة ، اللؤلؤة الصغيرة . نقول شذرات ذهب : قطع ذهب . شذرات من الكتاب : فقرات من الكتاب .
شعائر: جمع شعيرة وهي مجموعة من الأفعال لها دلالة رمزية تُؤدّى على فترات زمنية محددة أو في مناسبات خاصة وهي في الغالب ترمز إلى دلالات دينية، يمكن إعتبارها : تقاليد/ مظاهر/ عادات/ طقوس / مناسك .. وبالتالي نفترض ان العنوان وفي اقرب دلالته يعني : فقرات من كتاب ( تُشبه قطع من ذهب ) متصلة بما يجب تبنيه من مظاهر وطقوس وتقاليد تعكس السبيل الى تحقيق حلم الحرية والتحرر واستعادة الأراضي المحتلة ومعها كامل السيادة الوطنية ، على ارض الوطن التاريخية ، هو حلم كل الفلسطينيين و معهم كل شرفاء العرب و العالم …
تتنوع وتتعدد المضامين في المجموعة الشعرية لكن نجد أن جلها يطغى عليه البعد التاريخي والإجتماعي لما ترتب عن (نكبة 1948م) التي كانت ضحيتها فلسطين وما استتبعها من تهجير ولجوء و شتات وتشظي وفقدان للأرض والوطن وكانت لها آثار مدمرة طالت عامة الشعب ، وما زاد في تأزيم الوضع الاجتماعي، الحروب والانتفاضات المتتالية وتسارع عملية القضم المتلاحق لما تبقى من الارض الغير المحتلة ومن السيادة الوطنية عليها وذلك باتباع كل سبل القوة والخداع والغدر واللامبالاة بالقيم الانسانية ، بل والخيانة من ذوي القربى، جاء تعبير الشاعرة عن ما جرى و ما يجري حاليا بنكهة اجتماعية انسانية واقعية بمحتوى روحي ايماني قوي يتمحور حول رمزية القدس (المقدسة) وتاريخ وحضارة “فلسطين ” ما عكس خطابا شعريا له تأثير كبير على مشاعر المتلقي الذي يتماهى مع نصوصها الشعرية بشكل كبير نظرا لانها تستجيب لديه لرغبة وحاجة روحية لما للقدس وفلسطين من مكانة عظيمة في نفوس العرب ولبلوغ ذلك توظف شاعرتنا فكرا عميقا برؤية شاعرية هادفة في اسلوب راق ولغة مغرية عذبة وناعمة تأخذ بلب العقل وتثير الأحاسيس والمشاعر لدى المتلقي.. تقول الشاعرة : في “من مائي الكون اخضرّ” (ص: )
ضمني كنعان للصدر
فلسطينية انا
مهما تناءى بي الغدر
ادن انتسابا
انا مركز الكون
قلبي ملعب للحب ..
ضوء من الله يقيني عثرات
والاغتراب
ياقدس يا ماء الخليقة
ياغيث الظماء لا تعجزك
العذاب
…..
اقسمت بالزيتون
…
بخد المشمش المذبوح
على جيدي
بذرف دمعي
يغافلني
ليعانق دم الشهداء
لن اتوجع لخطايا اقزام
سلاطين
تنناول شاعرتنا من منظورها وتجربتها الحياتية الغنية ورؤيتها الشاعرية واقع فلسطين والقدس الشريف وهموم وألم ووجع أهلها وامالهم التي رأوها في لحظة زمنية تتبخر لتنهال عليهم المصائب والفواجع جراء ما يقدم عليه المحتل الغاشم من اعمال تتنافى مع ابسط القوانين والقيم الانسانية ضد شعب اعزل هو صاحب الارض والحق تاريخيا ، وقد عاشت شاعرتنا هذا الوضع المزري منذ نعومة اظافرها كلاجئة في المخيمات صحبة اهلها وذويها ، وبالتالي جاء تعبيرها الشعري صادقا وحيويا تتخلله مشاهد استرجاعية عبر تداعيات الذاكرة باحساس مرهف و فكر واقعي ووعي يقظ ومتوثب .
نلمس ان الشاعرة ملتزمة بقضية وطنها ودينها ومقدساتها وبالتالي جاءت نصوصها الشعرية معبرة عن قناعاتها الراقية والمتميزة . لتشرك المتلقي فضاءها الشعري، و لترقى به الى مستويات اعلى تصل الى حدود ما هو كوني فعمدت من اجل تحقيق ذلك الى توظيف التاريخ والأسطورة ، الميتولوجيا والتراث الثقافي الفلسطيني والعالمي ، بشكل فني جمالي مندمج ومعبر تصريحا وتلميحا بايحائية عميقة للغاية .
فتوظيف الأسطورة في بناء بعض قصائدها أضاف الى نصوصها مزيدا من الجمالية والفنية وهطول من فيض دلالي وزخم معرفي، جعل في الإمكان استحضار البعد الاسطوري لمعالجة ما يكشف عنه الواقع المعاش من صعاب تتطلب استنهاض الهمم. وايصال مضمون الرسالة الشعرية في غفلة من سيوف الرقابة المسلطة عل أعناق الابداع باستعمل اسلوب ايحائي مشفر .
وظفت الشاعرة الثرات الثقافي والديني لتضفي على المنجز الابداعي عراقة واصالة في المجتمع الذي تنتمي اليه ، لكي تحقق ترابطا بين الماضي والحاضر في استشراق لمستقبل يتجلى جميلا ورائعا في رؤية شاعرية عميقة وشمولية زمانيا ومكانيا .
استعانت الشاعرة برموز عامة مرتبط ارتباطا وثيقا بتجربتها الذاتية الشعورية وبامال مجتمعها المرتبط برؤيتها للعالم في افق الرؤية العامة المنتظرة لمجتمعها ..تقول الشاعرة في “الدواة طيلسانها ” (ص:)
لاملجأ منك إلا إليك في موتي ..
فانت ترافقني كبحر حرون ؟ ..
على متنه اوديسيوس
يعتمر الامل ..
وحنينه لوطنه يعصف
في جميع الاتجاهات
منيرفا تحفزه ..
وتقول في “وعد بلفور” : ً(ص: )
وعد سقط في ذمة امة
يسحب الظلام مرصوفا
في وثيقة تدمس الشعب
كله في غربة خراب
لقد حضن بلفور نطفة عفنة
كانت تعج بعقم وفوضى
بشتات ….
الشاعرة بأسلوبها الفاتن ومعجمها اللغوي الواسع والدقيق استطاعت بلغة مسترسلة، المزاوجة بين العقلي والشعوري ، المجرد والمحسوس، المادي والمعنوي، المقدس والفلسفي بشعرية وشاعرية فريدة في نمطيتها اللغوية المدهشة التي تسعفها للتعبير بعمق وقول أكثر ممايمكن أن تقوله لغة شعرية عادية. فالشاعرة متمكنة من لغة عربية اكتسبتها بطريقة فطرية اصيلة رصينة (تصل حد المعجزة) مندمجة في مجتمع فلسطيني محلي شامي(نسبة الى اهل الشام ) عربي جعلها في يسر ودون كبير معاناة تسبر اغوار بحار الفكر وتعبر عن ذلك بعبارات مزخرفة منحوتة كانها ناحت يعالج الصخر بإزميله ليستخرج اشكاله من عالم المجهول .
تستعمل الشاعرة المجاز بشكل كثيف، ما جعل صورها الشعرية توحي بدلالات متشعبة ومتعددة في صور ولغة شعرية حداثية يكتنفها بعض الغموض وصعوبة الفهم ، فلغتها الشعرية تتموقع على تخوم التصريح والايحاء مما يتطلب من المتلقي بعض التركيز والصبر لينال بعض المتعة واللذة المصاحبة للقراءة.. نصوص شاعرتنا لا تخلو من فن التصوير باستعمال الوصف السردي لتحفيز الذاكرة البصرية على تخيل بعض المشاهد لتبرز كلقطات (فوتوغرافية) توحي بمعاني ودلالات عميقة تترك وشمها في ذاكرة ووجدان المتلقي .. تقول الشاعرة في “الليل الطويل
كثيفة تلك الغيمات
والشمس لا تتوارى
عن مد اصابع الدفء الى شجري
قلمت بعد يباس من رأس العتمة
هنا بذار انبجاس الماء
وبيادر ورندحة حصاد القمح
والمواويل …
……
نوعام في دوحة حلمي
…
نم يانوعام فقد ولج رمحك الملطخ
ببسملات البيع بين فستاني الفضي
وبين انهزامك اللطروني
وباب الواد ..
……
في نصوص شاعرتنا نلمس في حالات معينة حضور الأنا تارة مفردة ( وحيدة منعزلة ) تتقصى عن فكرة داخلية جوانية في مناجاة النفس (في حوارية ذاتية ) تنشد التبصّر والفهم والتفسير في اطار ما يسمى ب”تيار الوعي” تحفر عميقا في الذات الشاعرة للكشف عن المجهول والمحتجب . وتارة اخرى تتحول الأنا الى ذات جمعية تتكلم باسم المجتمع في محاولة لبث نوع من التفكير والرؤية الشاعرية القادرة على تغيير الوضع الى الأرقى والأفضل.. تقول الشاعرة في قصيدة ” ندى الوهم “
غروب يراود احشاء براكيني
فاين
انت ؟ يامن رسمت لي الحب
حياة واشرقت في سر ضيائي
………….
احتضن الذكريات بين
شغاف الاوردة ونبض
الغفران ، بكل الانكسار احطم
صخرة الغياب فاين انت ؟؟؟
…. اتبحث عنك في عيني براكيني
رفوف اشرعة الشهب
ترسم الشاعرة لوحاتها الشعرية باسلوب رائع مميز (ساحر) باستعمال الفاظ مستقاة من حقول دلالية متعددة، مما يؤكد مدى ماتملكه من طاقة وامكانات وقدرات على انتاج منجزات شعرية ابداعية مذهلة ومدهشة . نلاحظ انها تنهال من معجم شعري لغوي غني يكشف عن تجربتها ونضج مشاعرها ورؤيتها الشاعرية للعالم ولمحيطها البيئي والإجتماعي مدعومة فكريا بالبعد التاريخي والثقافي لوطنها العربي وكذا بالبعد الأ سطوري الميتولوجي و الحضاري محليا وكونيا .
أثار انتباهي تكرار جملة من المفردات تنتمي الى العديد من المجالات :
المجال الطبيعي: الفجر ، الاشراقة ، النور، الضوء ، الأزهار ، الإخضرار، الأغصان الشجر، الربيع ، البيادر ، الشمس ، البحر ، الليل ، الطيور ، بلابل ، عصافير، الفراشات دجلة ، النيل …
المجال الفني: النغم ، اللحن ، العزف ، الكمنجة , مونامور ، الرباب ، الناي ، الأغنية، تغاريد …
المجال العاطفي الوجداني : الحب ، الهوى ، العشق ، الوجد ، الروح ،القلب ، الحلم الأماني ، القدر ،الجرح ، الوفاء ، البكاء ، الحنين ، الأوردة ، براكيني ، الوجود …
المجال التاريخي : معركة اللطرون وباب الواد بالقدس ، كنعان ، وعد بلفور ،الفراعنة ….
المجال الأسطوري الميتولوجي : بوسيدون ، مينرفا ، عشتار ، العنقاء ،(الفينيق )…
كما أنها ترسم بريشة الفنان المتمكن من الوانه معالم المعاناة وظلم وغطرسة المحتل: الحصار، العزلة, الأسير،الشهيد ، الاغتراب ،الطوفان، البكاء، الظلام، المعابر ، اللاجىء ، الشتات , الموت ، الخوف ، الغدر اقزام السلاطين …
تنتقل الشاعرة بين هذه المجالات ، برشاقة مذهلة تجعل اللغة تنساب بين أناملها في نعومة كالماء الزلال في الجداول، في دقة متناهية وتناغم في المبنى والمعنى تشد اليها المتلقي في اطار المتعة ولذة النص والإنفتاح على ثقافات وحضارات متنوعة ….
شاعرة تكتب برهافة احساس وادراك واع ، عن كل شهيد وأسير ومهجر فلسطيني ، وكل عربي
ولكل من اقتلع من أرضه ، او تعرض للظلم او التعسف او هضمت حقوقه . نستطيع بذلك القول انها تكتب للانسانية جمعاء ، ونُوصّف منجزها االشعري الذي انطلق مما هو محلي اقليمي لييصبح في عداد الثقافة الكونية لما يحتويه من فكر لامع صيغ باسلوب حداثي ، والذي لا محالة سيبوءها مكانة متقدمة وكان الحافز كما نلمس على الاشتغال والاجتهاد ما تعانيه و ما عانته كلاجئة مع القسم الأكبر من شعبها وابناء وطنها و هذا كان له بالغ الاثار في انضاج تجربتها الشعرية لتتجاوز الحدود القطرية ليصل صداها الى ابعد نقطة في الوطن العربي…
المجمزعة الشعرية تعبر عن الم ، وجع ، وحزن عميق . لكن من ثناياها يشعّ بريق الامل في الخلاص والحرية والتحرر من ربقة الإحتلال مؤيدا بوعد الله الصادق على اساس ايماني ديني قوي يدعم صلابة جدار المواجهة و الصمود والرباط . مع ابقاء الباب مشرعا لإستنهاض الهمم والدفع بكل ما يخدم قضية الشعب لإستعادة كامل حقوقه المشروعة . في تشبيه مماثل لما جاء في احد النصوص عن طائر العنقاء ( الفينيق) الذي يولد مجددا من رماده بعد أن يحترق.. تقول الشاعرة : في ” نواميس ..صرخة عنقاء “”
بناقوس اجتراء
وريد جمان
اهتز رماد الفينيق
بانتصاب ناصية
………….
تقول الشاعرة في “كمد الدم”
في حقول الأمل
كان يزرع الأحلام ويسقيها
ليس بعيدا عن اعصار
جناحيه المصفدة
برقت اشجار الخصب الصامد ..
من خلال قراءتي لهذه المجموعة الشعرية الرائعة المتميزة بأسلوبها الحداثي وقيمتها الجمالية الفنية وزخمها المعرفي وفيض دلالاتها أقول اننا صحبة شاعرة متمكنة من أدواتها التعبيرية والفكرية تسندها معرفة تاريخية .. ثقافة واسعة .. تجربة حياتية.. ورؤية كونية تجعل الحلم يبدأ على مستوى ذاتها ومشاعرها الجياشة نحو وطنها لتنثرها حروفا عسجدية وتعجنها مجازا ليتحول شعرها الى رغيف أمل يغذي اشراقة شمس الحرية والتحرر ….
ختاما لا اتردد في أن اؤكد بعد أن قرأت هذا الديوان الشعري المذهل لشاعرة عاشت القضية الفلسطنية منذ ان كانت طفلة، ثم أم وهي الآن جدة ، تعيش في كنف القضية الفلسطينية في كفاف وعفاف وتؤمن بصدق قوي بقضيتها وينعكس ذلك في. كتابتها التي تخاطب القلوب والعقول وخير شاهد على ذلك نصوصها الرائعة والمعبرة بعمق عن كل ماهو انساني .. اقول اننا امام تجربة شعرية رائدة وشاعرة حداثية واعدة بالعطاء.