مصابيح الذات

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

 

ولد في جنيف لعائلة فرنسية الأصل، وقد كانت حياته ومنذ ولادته تتسم بالشقاء والتشرد والتعاسة؛ فبعد ولادته بأسبوع توفيت والدته لتتركه يتلقى العناية من الآخرين، وقد كان ضعيفاً مريضاً وقد دفعت والدته ثمن ولادته –على حد قوله- ولم يبلغ السادسة من عمره إلا وكان أبوه يحمله على قراءة القصص الروائية والكتب الفلسفية، ولكن ما لبث والده أن فَرَّ من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له، لتبدأ حياة الشقاء والتشرد تطارد “جان جاك روسو” لتبني شخصية معقدة، فقد أُدخل مدرسة بقي فيها سنتين ثم اضطر لتركها بعد أن أخضع ظلماً لعقاب صارم، وبعد المدرسة ذهب ليتعلم حرفة النقش، ولكن ظُلم معلمه وجوره اضطراه للهرب من جنيف. وبسبب حاجته إلى المال أخذ يتنقل من عمل لآخر دون أن يجد ما يرضيه أو يوفر له الاستقرار، وبعدها سعى لاحتراف الموسيقى وكان أمله يكمن في وضع نظام جديد للعلامات والرموز الموسيقية كان قد ابتكره، ولكنه أثار قدراً ضئيلاً من الاهتمام.

وفي باريس اتصل “روسو” بالفلاسفة، مما جلب له شهرة واسعة، فشجعه ذلك على المضي في الكتابة، وكان من أشهر كتبه “العقد الاجتماعي” و”إميل”، ولكنهما قد جلبا له الانتقاد والسخط وغضب الفلاسفة، فقد كان “روسو” يعتقد أن الناس ليسوا مخلوقات اجتماعية بطبيعتهم! معلناً أن من يعيش منهم على الفطرة، يكون رقيق القلب، خال من أية بواعث أو قوى تدفعه إلى إيذاء غيره. توفي “جان جاك روسو” بعد أن ترك إرثاً فكرياً عظيم القيمة، ولا تزال نظرياته في الفن والفلسفة والتعليم تُدرَّس وتناقش، ولا يزال الجدل حولها مستمراً حتى اليوم.

إن تأملاً في حياة “روسو” تكشف لنا أثر الضغوط النفسية عليه والناجمة عن تنازع وصراع بين نشأته ورغبته، ولكنه كان يعلم أن الحياة قصيرة ولا تخلو من ألم. وجميعنا يمر بظروف حياتية قاسية؛ مِنَّا من يتجاوزها بنجاح، ومِنَّا من يبقيها محفورة في ذهنه. والحياة بكل ما فيها من تقلبات وتغيرات وصعاب لابد أن يحكم فيها الفرد نفسه؛ إما أن يتفاعل معها أو أن يبقى جامداً على هامش الحياة. والناجحون من أمثال “روسو” يعلمون أنهم لن يموتوا من جراء خيبة الأمل أو الرفض أو الفشل، بل هي أمور تحث على النجاح ومزيد من التحديات. إن دعم الذات يبدأ من الداخل، وعندها سنرى مصابيح الذات وقد أضاءت وأشرقت، وإذا بالفرص والموارد تتسارع إلينا لتعيننا على تحقيق أهدافنا، والحياة ذات المعنى والقيمة تبدأ بإصلاح الذات والتغلب على عوامل الهدم التي تعتريها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى