الدين لله والوطن للجميع
جميل السلحوت| القدس العربية المحتلة
لا جدال في أن مسيحي العالم العربي هم مواطنون أصليون وأصيلون في بلدانهم، وهم في غالبيتهم ينحدرون من قبائل عربية معروفة، اعتنقت المسيحية قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأقرهم على دينهم (لا إكراه في الدين)وهم مواطنون كاملو المواطنة، لهم ما على بقية المواطنين من حقوق، وعليهم ما عليهم، وقد اعتبر المسلمون الأوائل اصحاب الديانتين السماويتين السابقتين أهل ذمّة، أيّ أنهم في ذمّة المسلمين، ولم يشركوهم في الفتوحات الإسلامية- لأنها حروب دينية لنشر الإسلام- وطلبوا منهم دفع (الجزية)مقابل إعفائهم من المشاركة في حروب الفتح، أيّ مقابل إعفائهم من خدمة العلم في المصطلحات الحديثة، وعندما اشترك أحد النصارى في حروب الفتح زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه -، من منطلقات أنه يقاتل دفاعا عن – عزّ العرب – أسقط عنه الخليفة الجزية.
وللتذكير فقط فإنه عندما فُتحت القدس في العام 636 م زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، كان مواطنوها يدينون بالمسيحية، وقصة استلام الخليفة لمفاتيح المدينة من بطريركها صفرونيوس، والعهدة العمرية معروفة ومذكورة في كتب التاريخ، وكذلك عندما فتح عمرو بن العاص مصر في زمن عمر بن الخطاب ايضا،كان الاقباط فيها، وديانتهم كانت ولا تزال المسيحية، فأقرهم على ذلك، بل هناك ما هو أبعد من هذا، فقد حافظ الحكم الإسلامي على المعابد والتماثيل والمقابر والآثار.
الفرعونية كتراث حضاري لهذا البلد
وللتذكير أيضا فإن الأوروبيين عندما اضطهدوا اليهود في القرون الوسطى، لم يجدوا لهم ملاذا آمنا إلا في الأندلس – إسبانيا – التي كانت تحت الحكم العربي الإسلامي، حيث استقروا آمنين محميين وانتجوا حضارة وثقافة.
وأنا أسوق هذا وغيره كثير لتبيان أن الطائفية والانغلاق الديني، والفكر التكفيري ليست من الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وما هي إلا أفكار وليدة عصور انحطاط فكري وحضاري تعيشها الأمة، وحصدت جراءها هزائم فادحة، وهي ردات فعل ضيقة الأفق على المظالم التي تلحق بالعرب والمسلمين من المستعمرين الغربيين الذين يدينون في غالبيتهم بالمسيحية، وإذا ما قفزنا عن حروب الفرنجة كما سمّاها بوعي معاصروها من العرب والمسلمين، في حين سماها المستعمرون الغربيون – الحروب الصليبية – لاستغلال العاطفة الدينية لعامة شعوبهم لتجنيدهم في حروبهم الاستعمارية، فإن ما يشهده العالمان العربي والإسلامي من حروب وصراعات واحتلالات هو نتاج لأطماع اقتصادية وسياسية، لا علاقة لها بالمسيحية، وللتذكير أيضا فإن أبشع الحروب وأكثرها ضحايا ودمارا في تاريخ البشرية، هي الحرب العالمية الثانية التي زاد ضحاياها عن السبعين مليون شخص استهدفت أوروبا وشعوبها المسيحية.
والمسيحيون العرب مندمجون في شعوبهم، ويحملون قضايا أمتهم وأوطانهم، فقد سقط إلى قمة المجد عشرات آلاف الأقباط المصريين في حروب مصر مع إسرائيل، وسقط كثيرون من مسيحي فلسطين، وشرد منهم مئات الآلاف تماما مثلما حصل مع أخوتهم المسلمين، وكان من مسيحي فلسطين مقاتلون وقادة لفصائل مقاومة منهم حكيم الثورة الفلسطينية الراحل الدكتور جورج حبش، ومنهم نايف حواتمة زعيم الجبهة الديمقراطية-وهو ينحدر من اصول أردنية-.
ومسيحيو العالم العربي هم جزء من فسيفساء هذا العالم، لهم دور ريادي في البناء الحضاري للمنطقة عبر التاريخ، وكان لهم دور اساسي في تدوين اللغة العربية والحفاظ عليها، فمؤلف (المنجد) مثلا مسيحي، وكثير من الرهبان والمطارنة والبطاركة لهم مؤلفات وأبحاث قيمة في اللغة العربية. وفي التاريخ المعاصر فإن مفكرا كبيرا كإدوارد سعيد، خدم القضية الفلسطينية والقضايا العربية أكثر من فصيل مقاومة، ودافع عن الإسلام من منطلقات قومية أكثر من غيره من علماء المسلمين.
وما منظرو (ملة الكفر واحدة) إلا منغلقون ثقافيا، وجهلة بأمور دينهم ودنياهم، وهم يسيئون في أيامنا هذه إلى الإسلام أكثر من إساءتهم للأعداء، ومع إنهم ليسوا حجة على الإسلام، إلا أن الأعداء يأخذونهم كمشجب يعلقون عليه حروبهم العدائية للإسلام والمسلمين والعرب، ولا يخفى على أحد أن المستعمرين والطامعين والحاقدين والمحتلين يحاولون بشتى الوسائل إثارة النعرات الطائفية، والاحتراب الداخلي من أجل تسهيل سيطرتهم على المنطقة، فتارة يثيرون النعرات بين المسلمين والمسيحين، وفي مرحلتنا هذه يثيرون النعرات بين المسلمين أنفسهم من خلال تأجيج الخلافات بين الشيعة والسنة، ويجدون من يُروج لسياساتهم من أصحاب العمائم والقلنسوات مع الأسف، بقصد أو بدون قصد فالنتيجة واحدة، وإلا كيف يمكن تفسير الاعتداء القاتل على أقباط مصر خصوصا في احتفالات أعياد الميلاد المجيدة، ورأس السنة الميلادية، فالمصريون مسلمون ومسيحيون يعيشون بمحبة ووئام سوية منذ خمسة عشر قرنا. وكيف يمكن تفسير الاعتداء على الكنائس في ماليزيا لاستعمالها كلمة (الله)؛ فهل الله سبحانه وتعالى إله وخالق الملسمين وحدهم، أم هي محاولة لتدمير ماليزيا واقتصادها الذي ينافس الاقتصادات الاستعمارية؟
ومن المريب إلى درجة الهلع هو هجرة المسيحيين من البلدان العربية تحت شعار – الهروب بدينهم – من الاضطهاد، أو نتيجة للحروب الأهلية كما حصل في لبنان، أو كنتاج لفجور ومظالم الاحتلال في فلسطين والعراق، حيث يتعرض المسيحيون في الأخيرة إلى عمليات قتل وتفجير للكنائس من أصحاب الفكر التكفيري، فعدد المسيحيين العرب الفلسطينيين في القدس كمثال كان في العام 1967-أيّ عام وقوع المدينة تحت الاحتلال- اثني عشر ألف مواطن، وهم الآن أقل من خمسة آلاف وهكذا.
وقد أدرك الزعيم الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، ومن بعده الرئيس محمود عباس أهمية وجود الأقليات الدينية في نسيج المجتمع الفلسطيني، فاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير دائما في عضويتها مسيحي أو أكثر، وفي المجلس التشريعي خصص لدائرة القدس مقعدين مسيحيين للمسيحيين، علما أن عدد سكان دائرتها الانتخابية 420 ألف مواطن، كما خصص مقعدا للمسيحين في غزة مع إن عددهم أقل من ألف شخص، حتى إنه خصص مقعدا للطائفة السامرية اليهودية في نابلس، مع إن عددها لا يتجاوز الألف شخص أيضا، وكان رحمه الله من المؤمنين بأن (الدين لله والوطن للجميع).
من هنا فإن الحكومات العربية والإسلامية مطالبة بالضرب بيد حديدية كل من يحاول المس بالأمن الاجتماعي وإثارة القلاقل والفتن، وفي مقدمتها الطائفية البغيضة.