أدباء بيت “آل عبد القادر” .. إبداع لا ينتهي

بقلم: داليا الحديدي | كاتبة مصرية

يرتعش القلم حين يحاول أن يخط سطرًا عن قيمة إنسانية وأدبية كبيرة رحلت عن عالمنا منذ ست سنوات بعد أن منحت الأدب والصحافة والقلم ما يربو على نصف قرن من العطاء الخالص.

بالفعل، ترددت مرارًأ كلما حاولت الكتابة عن القيمة، عن الإنسان والكاتب الصحفي الكبير “سمير عبد القادر “ابن المفكر العربي القدير وشيخ الكتاب الصحفيين “محمد زكى عبدالقادر”.

قد يلتفت البعض للكاتب الكبير لكونه من بيت أدباء، فوالده أديب له مكانته الراسخة في الفكر العربي يكاد يناطح العقاد، ونادرًا مايتوارث الموهبة والنبوغ أهل بيت واحد. لكن كأن الله قد أشار “لبيت آل عبد القادر” لنلتفت للمنتج الإنساني لهذه الأسرة المبدعة والتي تعود جذورها لمدينة فرسيس بالشرقية منبع أعلام مصر.

ورغم أن “محمد زكي عبد القادر” قدكتب في الصحافة، والقصة القصيرة، والرواية، والقانون كما أسس مجلة “فصول” الأدبية،عدا إقامته لصالون ثقافي أسبوعي، كان يعقده في مكتبه كملتقي لطلاب الفكر والثقافة. وبالرغم من تقلده لمنصب رئيس تحرير جريدة “الأهرام”، ثم “أخبار اليوم”، إلا أن أهم منجزات المفكر الكبير كان ابنه، وازعم أن أحدا لا يتجرأ على الإدعاء أن دخول “سمير عبد القادر” عالم الصحافة كان بالواسطة، بل على العكس تماماً، ففي منتصف الخمسينات وعقب تخرج الإبن من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وضع رئيس التحرير إبنه على خط النار حين تنكر “سمير عبد القادر” في شخصية بائع يجر “عربة كارو” ليستطيع التقاط صور العدوان علي مدينة “بورسعيد” إبان العدوان الثلاثي، وعاد من منطقة القنال وهو يحمل نصراً صحفيًا لا يعرف بعمق قيمته إلا بعد أن نشرته صحيفة «الأخبار» وتناقلته وكالات الأنباء عنها لاحقاً. ما يعني أن المفكر الكبير لم يجازف بأبناء غيره كما لم يعرض حياتهم للخطر، بل كان واثقًا في قدرات إبنه على حداثة سنه آنذاك.

وقد يشيد البعض بجرأة “سمير عبد القادر” لكونه انتقد فى كتاباته الأوضاع الخاطئة، وهاجم أكثر من مرة الحكومات الفاشلة التى مرت على مصر، وناقش أزمات البطالة والتعليم والتحرش، كما خصص عددا كبيرًا من مقالاته ومؤلفاته فى الدفاع عن المرأة وتوعيتها وحل مشاكل الأسر المصرية من خلال زاويته “نحو النور” التي تمسك بعنوانها كونها أثر من آثار والده، و استمرت جهوده في التوعية أثناء إشرافه على صفحة “للنساء والرجال فقط” بجريدة “أخبار اليوم”ولدى إشرافه على ملحق “أخبار الجمعة”.

إلا أني أزعم أن إنجاز الرجل الحقيقي تجلى في عمق وتنوع كتاباته بين التخصص الإقتصادي حين رأس القسم الاإقتصادي في” أخبار اليوم” وبين التنوع الاجتماعي الذي غلف سائر كتاباته.

ثم أنني ألتفت للبساطة والصدق بل وللأصالة التي تميز بها “سمير عبد القادر”، فقد كان يكتب بأسلوبه هو، وهو أسلوب آية في الوضوح والبعد عن التقعر.

كان ومضة تسطع في الظلام لتنير درب الفكر، ثم تختفي سريعاً كأنها طبعت قبلة على جبين الإنسانية.

 سمير عبد القادر كان يكتب بحبر الرقة الشفاف وبعفوية الطيب الواضحة وبمشرط الجراح المعالج وبشغف الباحث المستكشف وبقلم كاتب أطلق العنان لإنسانيته..

فقد كانيدير ظهرهصراحة إلى اللافتات التي تسعى إلى تأطير كتابة المقالات بعناوين برّاقة، مخادعة على حساب المحتوى، بل كان مباغتًا لفرط بساطته ومباشرته وشفويته، فقد تخفف من المجاز وهجر المحسنات ليبدع دون ثقل أو تكلف البعد في المسافة عن الجميع.

تكاد تسمع صوته في المقال كأنه يحدثك أنت.. أنت شخصيًا، أو كأنه يوصيك ألا تقترف أويستحلفك أنت تعيد التفكير بل تكاد تراه وهو يستنكر بدون إنفعال.

وهذا الأسلوب يحتفي به الغرب أكثر من أهل المشرق، فهو أقرب للذوق الأوروبي في التعبير، ف”سمير عبد القادر” يكتب كمصمم أزياء غربي يكره البهرجة ويشمئز من “الترتر”والبراق و”الزركشات” وإن تمسك بالمعاني التي بغزلها بقماش من “الدنتال” من ال”هوت كوتيور” .

هو كصائغ معاني تقرأ له نص من الذهب الخالص عيار 24 . لذا، فأنت على يقين بأن نقدك ووقتك لن يهدر هباء في مصنعية زائفة تخلط شوائب النحاس بالذهب.

حوارات “هو وهي” التي نشرت على مدى أعوام طويلة تعتبر من أشهر ما كتبه الصحفي الراحل بالإضافةلسلسلة من المؤلفات صادرة عن “دار أخبار اليوم” أشهرها :” امرأة تزوجت الشيطان، العذاب مع امرأة واحدة، الروح والجسد والزواج، ولا تقل الحب وداعًا وغيرها من الإصدارات.

وقد استوقفني هذا البعد الإنساني العميق في شخصية الكاتب الكبيروالذيلم استوعبه الا بعد اطلاعي على رسائل والده له.. تلك الرسائل التي نشرت مكتوبةبأقصى حالات البوح، وبمرآة شخصية مثقلة بخبرة الحياة وبدموع الكباروبالمكاشفة وبدون موارية عن معاناة الفقد للزوجة والأم في حياة الكاتبين، فالأب فقد زوجته بعد فترة جدًا قصيرة من انجابها للإبن الذي خسر الأم “العزيزة” والطمأنينة الغالية.

وصدق “محمد زكي عبد القادر” حين كتب: “من الألم ينبع كل شئ عظيم”

كنت شابة صغيرة حين اطلعت على الرسائل والتي وجدتها تحفة أدبية لم أقرا مثيلا لرهافتها، وهي تدفعك لأن تعيد التفكير في بديهيات الحياة وأبجدياتها، بل لقد اكتشفت أن البوح من فضائل الكتابة .. فهو كاشف للحقائق .. فكيف لمحمد زكي عبد القادر، هذا الرجل الشاهق الذي تخشى من إحتمالية أن تضعك الاقدار وجهًا لوجه معه،وإذ به على الورق شخصية تهشم المشاعر وترقق الصخر وتذيب العناد.. وقد كنت تحسبه أهل شدة. وإذ به طاقة من الإنسانية خليقة بأن تحظي بلقب أديب وحري بأمثالهأن ينجبوا أديب ونسان يحمل أرقى معاني الإنسانية.

سمير عبد القادر هو الرجل الذي تخاله عمك أو تتمناه خالك، وتطمئن لوجود أنفاسه في الكون وتغضب له حين تعلم بخبر اعتقاله، فقد تعرض سمير عبد القادر للإعتقال عقب قيامه بتغطية إنقلاب الرئيس “هواري بومدين”بالجزائر، ولا تندهش حين تعلم أنه يتمنى صادقًا الخير للجميع، فهو الأب النادر الذي يحجز لأبنائه تذاكر حفلات موسيقية ليقضوا أمسيات طيبة بصحبة زوجاتهم، وهو الرئيس الذي يوجه وينتقد دون إهانة كرامة مرؤسيه، بل يدفعهم دفعًا للمزيد من الظهور، وهو الجد “الرحمة ” كما أنزل في الكتاب، وهو الجار الذي تتمنى جواره لتسعد بملاقاته على المصعد لأنك تشعر أنك آمن في جواره، وهو الإنسان الذي ستندم أشد الندم أنك ماعرفت قدره وما اوفيته حقه وما فهمت صمته.. هو الخل الوفي الذي يجعل المستحيل .. غير مستحيل.

يقولون أن الجمال يلتفت له أعناق الرجال

ويقولون أن المال تلتفت له أعناق النساء

أما أنا فأقول إن الحنان يلويأعناق الأطفال، لأنهم يشمون الطيبة في خلق الله.

 وبالرغم من اني لم اتشرف بالإقتراب من الكاتب الكبير، إلا أن الأقدار وضعته في طريقي يوما ما، وكأن كل دوره في حياتي أن يصف لي عمليًا شكل الطيبين، فقط لاتعرف على أيقونة الرحمة والانسانية في مجتمعي.

 فقد قابلته يوما بأروقة دار”أخبار اليوم”، وبالفعل التفت اليه وانتبهت لتلك الملامح المسالمة والسمت الرقيق والإبتسامة الملائكية التي يمنحها دون ادعاء.

 سألت عنه: فاخبروني أنه الكاتب الإنسان.

لا اعلم كيف للقاء عابر أن يحفر تلكالأغوار في نفس الإنسان حتى قرأت كلمة كتبها محمد زكي عبد القادر في كتابه: “على حافة الخطيئة”

 “من الحديث ما لا يطول ولكنه يحفر في النفس خندقا عميقا، ومن اللقاء ما لا يتجاوز الدقائق ولكنه يتجاوز العمر، يتجاوز الزمان والمكان”.

ومنذ ذاك اليوم صار”سمير عبد القادر” خط الاستواء الإنساني بالنسبة لي، فكل إنسان يقترب في كتاباته وسمته من أسلوبه فهو يقترب من المثال الذي تجسد لي أنموذج للصدق والطمأنينة وعدم التصنع.

“إن فى داخل كل منا إنسانا آخر، هذا الإنسان هو الجوهر، هو الحقيقة، هو الواقع” كلمات كلما مر عليها الدهر تعتقت كالنبيذ، معاني ستخلد كاتبها  القدير سمير عبد القادر الذي كرمتهنقابة الصحفيين بتخصيص جائزة تحمل اسمه ضمن جوائز التفوق الصحفيفي الصحافة الإقتصادية مدى الحياة.

على أمل أن نقابل بدروب الحياة أشخاص كسمير عبد القادر ليهدونا.. نحو النور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى