اسرائيل: تصعيد قمعي مقابل العجز عن الحسم
أمير مخّول | فلسطين
تكاد لا توجد أداة قمع وقهر وعنصرية الا وقد استخدمتها اسرائيل من قبل. لم نشهد تصعيدا سواء أكان رسميًّا سلطويا قمعيا ام من عصابات مسلحة ارهابية صهيونية مدعومة سلطويا، إلا وحصل مثيله من قبل. اسرائيل تكرر ذاتها وقد كان بالامكان القول حتى الابتذال، لولا ان التكرار دموي وارهاب دولة وتزهق فيه ارواح فلسطينية ويسقط الشهداء وتهدم بيوت ويتم تهجير سكان، وأحكام مؤبّدة ..الخ. كما أنّ كل الاجراءات التصعيدية الحالية التي نعيشها هذه الايام هي ليست وليدة اليوم بل مخططات جاهزة وبالذات ما بعد هبّة الكرامة قبل حوالي العام.
حين تعجز المؤسسة الأمنية الاسرائيلية عن كسر ارادة جماهير الشعب الفلسطيني، او حين يخفق جهاز الشاباك، نشهد تصعيدا انتقاميا سافراً، الى أن يدركوا ان عقيدة “إذا لم ينفع البطش فما عليك الا بالمزيد منه” ترتدّ عليهم ويتراجعون. فقط مؤخرا شاهدنا مثل هذه المعادلة في هبة الكرامة والشيخ جراح وسيف القدس، وشهدناها في اعقاب نفق الحرية والمسعى الانتقامي من الاسرى جماعيا الى ان تراجعت المؤسسة الاحتلالية مؤخرا امام الخوف من اضراب الاسرى، كما ان المؤسستين السياسية والامنيّة للدولة في ورطة اخفاقاتهم الاستخباراتية وفي اعادة الاعتبار لمعادلة الردع التي باتت تردعهم ايضا. فكما تحولت قضية حي الشيخ جراح المحتل من حدث محدود نسبيًا الى حدث استراتيجي خسرت فيه اسرائيل من نفاد سطوة جبروتها العسكري والقمعي، هكذا باتت الحرب المفتوحة على الشعب الفلسطيني ومساعي فرض “السلام الاقتصادي” بدلا من احترام الحق الفلسطيني، وحين تجاهلت حكومة بنيت لبيد فلسطين وبشكل سافر، سواء في لقاء سديه بوكير مع وزراء الخارجة العرب وبرعاية امريكية ام لقاءات بنيت شرم الشيخ وجولات قادة الاركان ولقاءاتهم مع القيادات العسكرية في البحرين والامارات وقطر والمغرب، فإن من تجاهل فلسطين قبل ايام بات منشغلا بكل قوة بفلسطين وبالذات بعد عملية بني براك.
في شرعية الخوف، وعن التخوّف من الهلع
شرعيّ جدا أن تخاف الناس من الاعتداءات الدموية عليها ومن قطع ارزاقها ومن سماع اهانات فقط لانها عربية فلسطينية، وأن تخاف على اولادها وبناتها الذين يعملون او يدرسون في الجامعات الاسرائيلية، وتهاب الناس من ان تتحدث بالعربية احيانا او من مظهرها الدال على عروبتها، ولا أحد يلوم أحداً ولا يحق لاحد ان يتدخل في مشاعر غيره. فالتنبّه والحذر ضروريان. الا أنّ المشكلة لا تعود الى سلوك العرب وهيئتهم بل الى الاجواء العنصرية الدموية الاسرائيلية التي تستعر كلما تورطت دولتهم. كما أن الخطير في سلوك شرائح ليست بقليلة من بين النخب العربية هو إضفاء موقف سياسي وديباجة سياسية على المشاعر منطلقه هو الهلع، لتتحوّل في الكثير منها الى اللهجة الاعتذارية من ناحية، او الى خطاب التعايش او الى جلد الذات أمام المؤسسة الاسرائيلية ويتعاظم منسوب النصوص العربية بالعبرية، والتي لا تؤدي الا الى المزيد من الاستعلاء والعنصرية.
للحقيقة فإنّ هذا المزاج السياسي لا يمثل الاكثرية وحضوره رغم سعته ليس طاغيا بتاتًا، الا أن الإعلام الاسرائيلي المجنّد في معظمه لجوقة الاستعلاء والتحريض الدموي، يوفّر “مكبّر صوت” لهذه الاصوات لتبدو كما لو كانت أعلى من صوت الجماهير الواسعة. في المجمل كانت المواقف السياسية ناتجة عن رؤية طبيعة واخلاقيات نضال التحرر الوطني الفلسطيني، كما وكانت هنالك مواقف بينيّة في هذا الصدد.
هناك امران لا تستيطع اسرائيل بحكومتها ومنظوماتها ان تتحرر من دورها وورطتها فيهما وقد ارتدّا عليها، مسألة داعش وقد كتب عنها الكثير، والامر الاخر هو سوق السلاح الذي اتاحته مفتوحا كي يفتك بالمجتمع العربي الفلسطيني ما دام مصوّباً الى داخله، لتكتشف ان سوق السلاح تسير حسب قوانين السوق وباتت مفتوحة اكثر مما ارادته الدولة لها فارتدّ بعضه عليها ولا يزال في معظمه مصوّباً تجاه الجماهير العربية. كعادتها في القمع والقهر فإن الدولة تسعى للانتقام من كل الجماهير العربية الفلطسينية، وكا هو معروف أيضاً من التجارب، فإنّ الانظمة الادارية والسجن الاداري والتعقّب والملاحقات وغيرها من العقوبات ستكون موجّهة في نهاية الامر تجاه الشبان والشابات الناشطين في العمل السياسي الشعبي والحركات والحراكات، بينما استخدامها السياسي-الإستخباراتي الآني هو للترهيب وزرع روح الهلع والردع الذاتي والتشكيك لدى قطاعات شعبنا وبالذات الشبابية.
“هذه هي لحظة حَمَلة السلاح المرخّص” و “عليكم السعي الى الاشتباك والمواجهة [مع العدو]”. هكذا دعا رئيس حكومة اسرائيل نفتالي بنيت والذي قد تطيح التطورات الاخيرة بحكومته، خاصة وانها مرتكزة على حزب عربي. ستجد الترجمة الفعلية لكلام بنيت وكما يتلقّاها الجمهور الاسرائيلي الواسع، في سهولة قتل الفلسطيني في شوارع البلاد واسواقها ومرافقها، فمجرد الشك يكون كافيا “للسعي الى الاشتباك” واطلاق النار. عمليا فإن ما يدعو اليه بنيت هو تحويل شرائح واسعة من المجتمع الاسرئايلي الى ميليشيات فردية وجماعية، ولا تختلف عن ميليشيات بارئيل واللد التي أعلن عنها مؤخرا، وهي ايضا “تلتزم” بالسلاح المرخّص، وبأن يتطوّع مجنَّدوها في الشرطة، بينما في الجوهر فإن الحديث عن تنظيمات ارهابية يهودية بترخيص حكومي فعلي. وكما أكد المبادر الى ميليشيا بارئيل للمتجنّدين لها: “انتم الشرطي والقاضي والجلاد معا”، أي كلٌّ يتّخذ قراره وينفّذه. في أية دولة في العالم لو دعى رئيس حكومتها الى ما يدعو اليه بنيت لقيل انها ميليشيات فاشية دموية بغطاء حكومي وشبه رسمية، بينما الاحتلال والعنصرية والقمع الاسرئايليين هي أمور محميّة دوليا اكثر من ضحاياها.
إلا أنّ ما يحسم الامور في نهاية المطاف هو الصمود على أرض الواقع، والتصدي الشعبي لهذه السياسات، إضافةً الى التمسّك بروايتنا الفلسطينية بأنه لا يمكن تجاوز مسألة فلسطين وحقوق شعبها، وبأنّ اسرائيل هي من ينبغي ان تكون قفص الاتهام وليس ضحاياها. نحن نتّهم ولسنا في قفص الاتهام.
لم تنعم جماهير شعبنا خلال كل مسيرتها بأية لحظة من حسن النوايا الاسرائيلية ولا بأية فسحة من تراجع سياسة القهر والضبط والرقابة والترهيب، بل كانت كل انجازاتنا ومسيرة تطورنا في هكذا ظروف. لم تتغيّر المعادلة، ولا خيار للحدّ من سطوة آلة القهر والترهيب إلا بإرادة الصمود والحق ورواية فلسطين.