التيار المتشعب
يوميات يكتبها: عبد الغني المخلافي
أجلس في كل مساءٍ إلى ورقةِ الكتابةِ بعد أن أرسم معالم فكرة تلوح في مخيلتي، وعند ولوجي في غمارها يصاحبني القلق والرهبة، وأكون بأنامل مرتبكة وحواس عاشق يستحضر لحبيبته العبارات المؤثرة فتتبخر من لسانه ثم يعيد ترتيبها من جديد وعند مقابلتها يحدثها بكلمات أخرى . في هذه اللحظة أمامي أكثر من فكرة ولا يمكنني اختيار فكرة بعينها. تناهت إلى مسامعي ضحكات الشباب الجالس في أسفل القرية وثغاء الأضاحي في أحواش المنازل ، فكل رب أسرة أشترى أضحية، وثمة من اضطر لكي يشتري إلى أخذ سلفةٍ ماليةٍ أو بيعِ شيءٍ من مدخراته. أضحتْ هذه المناسبة الدينية مظهرًا إجتماعيًا أكثر من كونها طقسًا دينيًا. ومن خلال نافذتي تبدو أجواء قريتي ملبدة؛ كعادتها في شهر تموز يتشبع الهواء بذرات الأتربة، وتزداد درجة الحرارة وأمراض الأطفال .
قبل شروعي في هذا الموضوع السطحي وغير المتماسك كنت على وشك الإمساك بفكرة واضحة وبدخول أحد الأصدقاء إلى خلوتي طارت الفكرة وجلست أتحدث معه إلى أن غادرني.. وها أنا أبدو متأرجحًا يتقاذفني تيار كتابتي المتشعب، فتارة يأخذني إلى اليمين، وتارة يذهب بي إلى الشمال، وأحيانا يعود بي إلى الخلف، وثمة أصوات الأبناء تخرجني عن مساري.
أنساق وراء قلمي في اتجاهاته المتشعبة، ثمة عوامل حولي مؤثرة وعوامل منبعثة داخلي، فالكتابة بالأول والأخير تعتمد على مزاجية الكاتب وحضوره الذهني وشعوره الوجداني ، في كل الأحوال هي مغامرة قد يكتب لها النجاح أو الفشل أو التشظي أوالدخول في حالة من الهلوسة أوتجنح في مجاهيل لم تنوي الذهاب إليها، أو لم تكن في حسبانك فتتوه وتتخبط.
وقد يشهد مخاضها كثيرًا من الألم والعذابات، وربما يأتي مولودها مشوهًا، أومشوبًا بالكثير من العور والقصور، فيحتاج إلى أن يبقى في حضانة ليكتمل نموه ويكون جاهزًا للخروج، بما يكفل لصاحبه الرضا وللمتلقي الاستحسان والمتعة.
هاهو قلمي في خضم لم يكن في حسباني ولم أتعمد مسلكه، حيث وقد جعلت زمام قيادتي في يديه وصرت مطواعًا لتخبطه في مغامرة كتابية غير مدروسة ولا مرسومة، و لا أعلم أين سيكون مرفأه وما سيخلف في إبحاره الأهوج.
يرتفع صوت النباح حول حروفي ، ولا تبدو أي نقطة معلومة سأتوقف عندها أو وجهة معروفة سأبلغها.
بعد ذهاب أبنائي إلى مشاهدة التلفاز اختفت أصواتهم، ربما طلبت منهم أمهم السكوت؛ كونها تعلم أنني أكون في الوقت هذا في مغامرة كتابية؛ تقيد من حركتهم وتجعل مساحة حريتهم ضيقة وسط المنزل، ولا يستطيعون أخذ كامل أريحيتهم في اللعب والتحدث بأصوات مرتفعة .
وتحرم الزوجة من الجلوس معي وترى في اختلائي بالكتابة خصمًا لدودًا، ولو في يديها قدرة إزاحته من وجودي لما تأخرت برهة واحدة ، حيث والكتابة تشكل الجانب المهم في اهتماماتي وتترك نزرًا من وقتي لأفراد العائلة. وأستشعر تبرم الأبناء والزوجة ، وأحاول أقناعهم بتقبل توجهي و عدم مطالبتي بالتخلي عنه، حتى لا يكون هناك أثرًا سلبيًا في علاقتنا.
فإذا أردت معاداة كاتب ما فقط عليك بعدم الاهتمام بما ينتج من إبداع، وبهذا السلوك توسع فجوة البعد بينك وبينه، وتبني جدارًا فولاذيًا وقطيعة لا يمكن ردمها . فالكاتب إن لم يجد أحدًا يشاركه اهتماماته يدخل في طور غربة كئيبة و يؤذي نفسه كثيرًا . ولا يمكنك بعد ذلك النفاذ إلى قلبه أو الاقتراب منه .
فهناك من لا يعطي أهتمامك بالثقافة والفن أي قيمة وعن قصد يتعمد اهمالك ويرى ما أنت فيه ضربًا من الجنون ومضيعة للوقت. فالعزلة للكاتب ضرورة ومهمة وإهدار وقته مع أصدقائه لا يمكن أن يمنحه فرصة الكتابة أو يطور أدواته أويزيد من معرفته .
ولولا المواقع الاكترونية و منصات التواصل الافتراضية لأنعدم المناخ الأدبي وانقطع الزفير والشهيق ومات الشغف للكلمة والفن.
إنك لا تحتاج اليوم إلى البيئة الأدبية أو الواقع الثقافي مع وفرة التواصل الافتراضي، يمكنك ممارسة نشاطك بحرية، فبضغطة زر تستطيع اختصار العالم والاجتماع مع منهم على شاكلتك، والاستغناء عن واقعك الحقيقي بواقع إلكتروني