قراءة في قصيدة قاب قوسين أو أدنى من الرحيل للشاعرة خديجة بوعلي
محمد هلال البيلي| ناقد ومحاضر
إذا كانت عناصر كتابة أي نص لا تخرج عن الاتساق والانسجام والقصدية والمقبولية والإخبارية والموقفية والتناص، وإذا كانت نظرية التواصل تقر بأن لكل نموذج أدبي باقة من العناصر الحية في النص، وهي المرسل والمرسل إليه والرسالة والسياق والشفرة وأداة الإتصال والنسق؛ى فإن الكاتبة القديرة خديجة بوعلي لم تقصر في كل هذا وقدمته في نصها قاب قوسين او أدني من الرحيل علي أكمل وجه.
هنا يبرز النص قدرات فنية كبيرة للشاعرة تكتشف أنها مصابة بزوائد إبداعية يجب أن تظل هكذا في زيادة مباركة.. هنا تبدأ نصها بوصف مكان الحدث
أين؟
بين فكي مقصلة الرحيل
ماذا يحدث؟
يقف طابور الأحلام ليعيد الحياة في الحالة القبلية للرحيل
الحياة بعثت في الرميم وأينعت في الخريف
دلالات تلاقي الموت بالحياة بإعطاء الكلمات طاقة فنية رمزية تخرجها من طاقتها الحرفية الوظيفية المباشرة، قدرات فنية عالية من الكاتبة، ثم ينتقل المشهد أمام مقصلة الرحيل ليقف الرحيل في مواجهة البطل وجها لوجه تسرد لنا بتراكيب قوية الصياغة متينة اللغة مايعبر عن معاناة درامية للبطل المقبل على الفناء بالبعد تستعمل الشاعرة الرموز الطبيعية وتجيد ببراعة عملية المزج في جمل شعرية تحمل الطابع الرومانسي الحالم؛ تقول:
أحلام تتزيى برود الكفن
هنا إشارة إلى أن الحب قد فاضت روحه ولا أمل في رجوع الموتي
تقول:
أوراق التوت يبست من صهد الخيبات وأزيز الحنين
تجيد الشاعرة لعبة الإنزياحات في الإضافة أو النعت أو الدلالة، وتهتم بالعدول اللغوي و الإنحراف الدلالي البعيد بمستجدات لفظية وتركيبية كبصمة خاصة بخديجة بوعلي؛ تقول:
بالرحيل تضيع سيول الزمن في الفيافي
تتوه خطوات السنين
هنا يظهر النسق المضمر في شخصية كاتبة النص ألا وهو حالة الإخلاص المرة التي تلتصق بوجدانها في حياتها وتعكس التجربة ذاتية الألم والوجع وخصوصيته في عالم نسي مثل هذه المشاعر المهجورة؛ تقول:
في كهف الصقيع تعتكف الأحلام سنوات ومسافات
أقول: من الطبيعي أن يكون الاعتكاف لسنوات يا شاعرة؛ لكن كيف يكون لمسافات.. هذه التمريرة الدلالية أحرزت الهدف الضمني وهو ضياع الزمن والمسافة النفسية وانتهاء باقة الأمل.. هنا عبقرية الجملة عند خديجة بوعلي، ثم تكمل استعمال كلمات الحقل الدلالي للكهف بسيرته المعروفة، هنا التناص يأخذ حقه من النص؛ تقول:
للرحيل أظافر مخلبية من زجاج
وتكمل وصفها للحالة وتعطي صورة دم كاملة لما يجري في جسد القصيدة وانعكاسه علي الحياة، وتبدأ رحلة رجاء العاشقين؛ تقول:
سيمتنع الصبح بدونك عن الشروق
إذن لقد وقعت مقصلة الرحيل يا شاعرة فلا يكون الرجاء إلا في الممكن هنا، فهل سيستمع لنداء قلبك ويعود في مرحلة ما بعد نهاية النص؛ تقول:
فلا تستعجل الرحيل
هي الآن تعيد الروح للمضمون وتوقظ الجسد من كفنه وتروي أرض القصيدة وتنادي على الشمس وتخرج من الكهف، إنها النهاية المفتوحة للقراءات المتعددة لهذا النص المفعم بالخلفية الثقافية والمعرفية واللغوية الكبيرة للشاعرة القدرة على قيادة التجربة بثقة واتزان وخبرة معملية في فن تركيب دواء الإبداع المعاصر في زمن مرض فيه الفن والإبداع قوة الصياغة والتماسك الدلالي من أهم سمات أعمال خديجة بوعلي الكرم الفني بزيادة المحصول اللفظي مقدرة التبذير التصويري المذهل والإسراف في تعدد الصور الشعرية هو أجمل إسراف وتبذير النفس الشعري النقي غير المتشابه مع غيره ميزة كبيرة.. التمريرات الدلالية في ملعب النص والمفاجأة النهائية تعكس قدرة سيناريست محترف ومؤلف درامي متمكن يعرف كيف يجعلك تعيش في توتر حتى النهاية.. في النهاية أشيد بالشاعرة القديرة خديجة بوعلي متمنيا لها المزيد من النمو الإبداعي