انثروا الطيبة.. قصة قصيرة
الدكتور سامي الكيلاني | فلسطين
يوم مشمس، نعم، ولكن النشرة الجوية على شاشة التلفزيون تقول بأن هذه الشمس مخادعة، درجة الحرارة عشر درجات تحت الصفر وستصبح على جلده، كما يقول الرقم الآخر على الشاشة، سبع عشرة درجة مئوية بسبب تأثير الرياح. تذكر زميله الذي وصل المدينة ونزل عند أصدقائه، عندما رأى الشمس ساطعة في السماء ارتدى قميصاً بكم قصير ليخرج ويستمتع بهذه الشمس، وعند الباب رأته سيدة البيت، فتعجبت مما تراه، وقبل أن تتمكن من إيقافه أو تحذيره كان قد خرج من باب البيت، أغلقت الباب خلفه ووقفت تنتظر، ما أن وصل طرف الشارع أمام البيت حتى ارتد كمن لسعته أفعى، رن جرس الباب وبدأ بطرقه بشدة، تباطأت في فتحه، فتحت له الباب، كان أفراد الأسرة في الصالون، انفجروا ضاحكين، وصارت قصته تروى في كل مناسبة. مضى على ذلك الحادث ثلاث سنوات. صديقه هذا عاد قبل أيام من زيارة للوطن يحمل معه هدية له من والدته، وسيحضر هذا اليوم من المدينة التي انتقل إليها ليلتقيه ويسلمه الهدية، اتفقا أن يلتقيا في محطة الحافلات الرئيسية حيث سيصل بعد ساعة ونصف.
أعد قهوة الصباح في الغلاية الكبيرة من البن المتبقي، لم يقتصد في استعمال البن لأن هدية الوالدة لا بد أن تحتوي كمية جيدة من البن. تخيل والدته حين تذهب إلى المحمص الذي تتعامل معه منذ سنوات وتطلب منه كيلوغرام من البن بنسبة الثلث محروقة، وأن يوزع الكمية على أربعة أكياس وأن يحكم إغلاقها وتشميعها كالعادة للسفر. اجتاحته مشاعر الحنين لها وللبيت، طالت غيبته هذه المرة، أخذته الحياة هنا، دراسة وعمل. انتبه لفوران القهوة قبل أن تنسكب، رفعها عن النار واتجه إلى الكرسي الموضوع قرب النافذة، وأعطى نفسه حقها في الاستمتاع باحتساء فنجانين قبل أن ينطلق إلى لقاء صديقه.
بمجرد خروجه من باب العمارة شعر بشدة البرد على وجهه، هذه المشكلة التي لا حل لها في مواجهة هذا البرد، خاصة البرودة الزائدة الناجمة عن الريح، أجزاء الجسم الأخرى يمكن حمايتها جيداً وإن تسلل إليها البرد فإنه يكون محتملاً. الريح والبرد أنزلا دموعه، فقرر التراجع عن خطته بأن يسير كامل المسافة حتى موقف الحافلات في الهواء الطلق. “أي هواء طلق هذا؟” حدث نفسه، وقرر أن يجزئ المسافة، يمشي نحو المجمع التجاري (المول) الضخم القريب ويدخل من بابه الجنوبي ويقضي بعض الوقت فيه ثم يخرج من الباب الشمالي، ويسير المسافة القصيرة المتبقية إلى الموقف. غطى ما يمكن تغطيته من وجهه وغذّ السير محاذراً الانزلاق على الثلج المتراكم. دلف المدخل واستقبلته دفقة هواء دافئ شعر بها تزيح طبقة من البرد العالق على وجهه، خلع المعطف الثقيل والطاقية وتفقد الوقت، يمكنه قضاء ثلث ساعة هنا في الدفء ويخرج بعدها ليصل الموقف مع موعد وصول صديقه.
مشى على مهله، يتوقف أمام بعض الواجهات دون هدف. ووصل الفسحة الكبيرة التي تتوسط صفوف المحلات في الجناح الجنوبي من المول. طاولة مغطاة بغطاء ملون مزركش تتدلى منها أشرطة ملونة، وعليها مجموعة من السلال الصغيرة الملونة المليئة بقطع صغيرة متنوعة من الشوكلاتة والسكاكر الملفوفة بأوراق وقطع سولوفان ملونة. تقف إلى جانب الطاولة سيدة خمسينية كما قدّر وشابة عشرينية. السيدة الخمسينية تدعو المارة لتضيفهم مما على الطاولة وتعرض عليهم كتابة كلمة أو جملة قصيرة على قصاصات ملونة على أشكال دوائر ومربعات ومثلثات يتدلى من كل قصاصة خيطاً، بعض من كانوا حول الطاولة كتبوا كلمات وعلقوا القصاصات على هيكل خشبي يشبه شجرة، لتتدلى الأوراق على أغصان الشجرة. الشابة العشرينية منشغلة بالكتابة على لوح أسود محمول على قائمتين، تحمل بيدها صندوقاً صغيراً فيه طباشير بيضاء وملونة، وعلى الوجه المقابل للوح كلمات وعبارات مكتوبة داخل إطارات مشكلة في جزء من مساحة اللوح، محت بعضها وعدّلت عليه. وقف يراقب حركاتها واندماجها في عملها، انتبهت له، بعد أن أنجزت آخر عبارة ورفعت يدها عن اللوح، سألته إن كانت العبارات تعجبه. اقترب منها ومن اللوح يتفحص الكلمات والعبارات، وكأنه يجري فحصاً قبل أن يصدر حكمه، ثم نظر في وجهها المبتسم ورفع قبضته وإبهامه إلى أعلى مثنياً على عملها ومضيفاً “عمل رائع، عبارات رائعة، شكراً”. اتسعت بسمتها وتقدمت من الطاولة ودعته ليضيّف نفسه، تناول قطعة سكاكر وشكرها. تحرك نحو اللوح ليرى الوجه الآخر، كانت هناك خطوط وأشكال مرسومة بالطباشير الملونة دون كتابة، سألها “ماذا ستكتبين على هذه الجهة من اللوح”، ردت بضحكة خفيفة “كن صبوراً، وستعرف عندما أفرغ من ذلك”. هز رأسه “جيد، ليكن، سأذهب وأعود لأرى، سأخمن وآمل أن يكون تخميني صحيحاً أو معقولاً”، تصفح العبارات المكتوبة بالأبيض على الوجه الآخر للوح عسى أن يخمن ماذا سيكون على الوجه الملون، عبارات: أنت رائع، سلام، كن طيباً، أنت محبوب، احترام، اللطف جميل، كن مُلهِماً، ومجموعة من القلوب المتداخلة والوجوه المبتسمة. قال لها: رائع، سأخمن وأعطيك الجواب حين أعود. سألته “ألا تريد أن تكتب على ورقة وتعلقها على الشجرة؟”، رد “سأفعل ذلك عندما أعود ومعي تخميني عمّا ستكتبين على الجهة الأخرى من اللوح”، ردت “أوكي، دعنا نرى”.
انتبه للوقت، كأنه قد صمم الأمر بحساب دقيق، انقضت فسحة الثلث ساعة. سارع نحو المدخل الشمالي للمجمع التجاري. عند المدخل أعاد ارتداء المعطف الثلجي ووضع الطاقية على رأسه وخرج ليضرب وجهه الهواء الثلجي، لكن بقايا الدفء خففت من أثره. قطع الشارع ودخل مبنى محطة الحافلات، واتجه إلى الرصيف الذي ستقف عنده الحافلة التي تقل صديقه. وصلت الحافلة في الوقت المعلن، استقبل صديقه ودلفا سريعاً إلى المبنى. انهمرت أسئلته عن البلد وعن العائلة والأصدقاء، استوقفه صديقه “دعني أتنفس، لنجلس في مكان قريب وسأحدثك، خذ الأمانة أولاً” وناوله الحقيبة التي يحملها. رد محتجاً “لماذا في مكان قريب، سنذهب إلى البيت ونشرب قهوة ونأكل معاً، أنا لم أفطر حتى الآن”. اعتذر صديقه بأن عليه العودة سريعاً في الموعد القادم بعد ساعة، فاقترح بدلاً من ذلك أن يجلسا في أحد محلات الوجبات السريعة في المول لشرب القهوة وتناول فطور خفيف.
ما أن دخلا المول حتى توقف وفتح الحقيبة، علّق صديقه “مستعجل، ما عندك صبر؟”، أجاب ضاحكاً “طبعاً”، ووقف في الزاوية وأخرج ثلاث علب من الحقيبة، فتح الأولى “الله! يسلم إيديك يا أمي، القهوة المطلوبة”، ثم فتح الثانية “واو، زعتر”، ثم بدأ بفتح الثالثة المغلقة بإحكام بواسطة طبقة من البلاستيك فوقها شريط لاصق طولاً وعرضا عدة مرات “وكمان معمول، يا سلام”. انتبه لصديقه الذي كان يراقبه مندهشاً، رد على اندهاشه “مستغرب؟ بطلع لك، إنت رحت وزرت أهلك والبلاد، نيالك. بعد الفطور نشرب قهوة ومعها حبة معمول بدل المافن”.
ودّع صديقه عند المدخل الشمالي للمول، بعد أن شدد الأخير رفضه أن يوصله إلى الموقف في هذا البرد “ما في داعي، في الإجازة القادمة سأزورك وأقضي عندك يومين”، رد “إذا هيك، ماشي الحال، اتفقنا”. حمل الحقيبة بيد والمعطف الشتوي باليد الأخرى ومشى باتجاه المدخل الجنوبي للمول ليعرّج على المعرض الصغير حيث سينقل تخمينه للصبية. راودته نفسه أن يغش، أن يقترب بحيث يرى ما كتبت بالألوان على الجهة الأخرى من اللوح ومن ثم سيغير الجواب الذي اختاره، سيغير فيه قليلاً ليكون قريباً مما كتبت، لكنه زجر نفسه قبل الاقتراب من المكان واتخذ اتجاهاً يضمن منه ألاّ يرى الوجه الملون للوح. وصل، كانت السيدة الخمسينية لوحدها عند طاولة المعروضات، وقف يتأمل العبارات مرة أخرى ليمضي بعض الوقت عسى أن تعود الشابة إن كانت قد ذهبت لأمر ما. بادرته السيدة الخمسينية “أهلاً، ها قد عدت، زميلتي اضطرت للمغادرة، اتفقتما على أن تخمن ما سيكتب على الوجه الآخر للوح، أليس كذلك”. هز رأسه موافقاً وسأل “هل ستعود قريباً”، أجابته “لا، للأسف، لن تعود لبقية اليوم، ممكن غداً، يمكنك أن تخبرني تخمينك”. فكّر لوقت قصير، كان يرغب أن يراها وأن يخبرها بتخمينه وينتظر “برافو” من فمها وعينيها، لكنه قرر أن ينقل التخمين للسيدة الخمسينية، قال “أعتقد العبارة ستكون: حبٌّ وسلام في الأرض”، شكرته السيدة الخمسينية “شكراً، عبارة جميلة، لكنها تقليدية، أليس كذلك؟ الآن انظر على الوجه الآخر للوح. وقف يتأمل العبارة والرسومات الملونة حولها “انثروا الطيبة مثل الكونفتي”، عاد إلى السيدة “من فضلك، وما الكونفتي؟”، أجابته “أوراق ملونة أو قطع سكاكر ملونة ننثرها تعبيراً عن الفرح”. أجاب “شكراً، وفي بلادنا يا سيدتي ننثر بتلات الأزهار أو قطع السكاكر في الفرح، وأحياناً ننثر حب الرز على رؤوس الناس احتراماً وتقديراً”. اقترحت عليه أن يكتب عبارته على ورقة ويعلقها على الشجرة الخشبية التي زادت الأوراق المعلقة عليها عمّا كانت عليه في المرة السابقة، اختار ورقة على شكل دائرة بلون لازوردي ولكنه لم يكتب العبارة، كتب كلمتي حنان وأمومة بخط كبير يملأ مساحة الورقة وعلقها. دعته مرة أخرى ليضيّف نفسه، أخذ قطعة سكاكر من كل لون، وشكرها. مضى نحو المدخل الجنوبي للمول يفكر بالشابة التي لم تنتظر جوابه، خاطبها “ليتك بقيت ووجدتك لتنثري طيبتك نظرات وابتسامات، فنحن نقول في ثقافتنا: تبسمك في وجه أخيك صدقة، والصدقة طيبة”.
ارتدى المعطف الثلجي، ووضع الطاقية على رأسه وخرج من المدخل الجنوبي للمول، صفعته الريح، كانت باردة جداً، أبرد مما كانت عليه قبل دخوله المدخل الشمالي.