أنا وربّي سوف نتصالح بعد يوم أو يومين
سهيل كيوان | فلسطين
لو سألتَ أيَّ شخص في بلدتنا عن الحاج أبي إبراهيم، لما احتاج إلى التفكير مرتين، ليشهدَ بأنه لم يصادف في حياته إنساناً أكثر منه استقامة وصدقاً وتقوى، فسيرته عطرة مرصَّعة بالأعمال الطيِّبة التي تنمُّ عن إيمان وقناعة وهدوء نفسي عميق، فهو لم يضع نفسَه قطُّ في موقع شُبْهَة.
سألته مرة إذا ما ذاق الخمرة مرة في حياته! فقال: «كنت فتى أشتغل في حيفا، وألحّوا عليّ بأن أذوق طعم البيرة، سكبتُ نُغبةً منها في فمي فكرهت طعمها وبصقتها، ولم أعد إليها في حياتي قَطّ. تجرَّأتُ مرة وسألته بحكم ألفةٍ بينه وبين المرحوم والدي، إذا ما عرف امرأة في حياته غير أم إبراهيم! فاكفهر وجهُه واستعاذ بالله مراراً، وأقسم بأغلظ الإيمان أنه لم يعرف أنثى في حياته غيرها.. «هذا دمار وخراب أعوذ بالله، حتى لو نامت في فراشي امرأة غيرها وتحت لحافي لما مسستها».
عاش أبو إبراهيم من كدِّ ذراعه منذ طفولته حتى شيخوخته، وكلُّ قرش كسِبَه كان بعرق جبينه وبالحلال، وعُرف بقوَّته البدنية إلى درجة عجيبة، إلى أن بلغ سِنَّ التقاعد وعاش من مخصَّصات الشيخوخة، وبعد بضع سنوات حان أجله ورحل.
كان لأبي إبراهيم ابن عمة يصغره سِناً، بلغ الثالثة والسّتين، وكان جسده ضعيفاً، ليس لديه أي مصدر للدخل، وأبناؤه ورثوا الفقر عنه، وبالكاد يغطّون مصاريف ونفقات أسرهم، وكثيراً ما وقعت بينه وبينهم مشادّات كلامية لعجزهم عن مساعدته، ولهذا كان ينتظر بقلق اليوم الذي سيبلغ فيه السابعة والستين، وهي السِّن التي تدفع فيها الدولة مخصّصات الشَّيخوخة للمسنين، وهو مبلغ ضئيل، ولكنه يحول دون أن ينام المسن جائعاً أو مقروراً، ما لم يتعرّض إلى سرقة من موظف البنك الذي يسلّمه الراتب، أو من مدمن مخدرات ينْصب أو يسطو عليه.
كان بعض الناس ممَّن ولدوا قبل النكبة الفلسطينية قد سُجِّلوا في ملفات النفوس في حقبة الانتداب البريطاني بتأخير عن يوم وعام ميلادهم الحقيقي لأسباب عديدة، منها الإهمال والتأخُّر في تسجيل المواليد الذين كان أكثرهم يولدون في بيوتهم، وخصوصاً في القرى النائية والتجمعات البدوية المتنقلة، أو بسبب انتقال الأسرة من بلد إلى آخر، وإنجاب مولود خلال هذه التَّنقلات، والتأخر في تسجيله، وفي النقب مثلاً توجد حالات كثيرة غير مسجلة حتى يومنا هذا.
كان هذا قابلاً للخطأ أو للتلاعب، فسُجِّل بعضهم بعد عام أو ثلاثة وأكثر من ولادته الحقيقية، وسُجِّل بعضهم قبل تاريخ ولادته، فكَبر بعامين أو ثلاثة، وصار البعض ممّن سُجِّلوا متأخرين يتقدمون بدعاوى ضد الدولة، ويسعون للإثبات بأن سنَّهم الحقيقية أكبر مما هو مكتوب في السِّجلات الرسمية بسنتين أو ثلاث، كي يحصلوا على مخصّصات الشَّيخوخة، وكان على المدّعي أن يحضر شهوداً إلى محكمة الصلح كي يقسموا أمام القاضي بأن المدعي من جيلهم أو أكبر منهم، وبعد قَسم شاهد أو أكثر على القرآن الكريم إذا كان مسلماً، تُصادقُ المحكمة على رفع سنه، منة ثم حقِّه في مخصَّصات الشيخوخة.
للقسَم على المصحف رهبته، ونادراً ما تجد من هو مستعد لشهادة زور مشفوعة بالقسم، خصوصاً من تلك الأجيال التي كان الحلالُ والحرام بوصلتها في كل تصرُّفاتها، إلا أن يكون مجرماً متمرِّساً، وقد قيل في هذا «قالوا للسّراق احلف فقال إجا الفَرَج». فلا مشكلة لدى المجرم بالقسم كذباً كي ينجو من عقاب عاجل.
وبسبب حاجته الماسّة وفقره المدقع، طلب أبو عاطف من ابن خاله أبي إبراهيم بأن يقسم في المحكمة بأنه من أبناء جيله، وأنهم دخلوا مدرسة القرية أيام الإنكليز في فوج واحد حتى الصف الثالث، فقال له أبو إبراهيم: أنت من جيل شقيقتي، وهي تصغرني بأربع سنوات، فكيف تريدني أن أقسم باطلاً في المحكمة؟
فقال أبو عاطف: يا بن خالي، أنت شايف وضعي الذي لا يسرُّ صديقاً ولا عدواً، حتى أولادي ما عادوا يطيقونني، ولن أجد غيرك يشهد معي، اعمل هذا المعروف معي ولن أنساه.
طلب أبو إبراهيم مهلة لبضعة أيام كي يفكر في هذا الموضوع الخطير، فهو حاجٌ إلى بيت الله، وعاش عمره دون أن تشوب أخلاقه أو صدقه شائبة، والأهم من الناس هو إله الناس الذي توعّد من يقسمون زوراً وبهتاناً بعذاب مهين.
جاءه أبو عاطف بعد أيام: ها شو قُلت؟ المحامي ينتظر!
-ولا يهمّك، إن شاء الله سأشهد معك.
في اليوم الموعود عندما خرج صباحاً من بيته للذهاب مع أبي عاطف إلى محطة الباص للسفر إلى عكا، التقى بجارٍ له، عَرف من لِباس أبي إبراهيم وتأنّقه بالكوفية البيضاء والعقال والقمباز ولمعان حذائه ومشيته بأنه مسافر، فاستفسر!
-خير إن شاء الله؟
-إلى عكا..
-خير، شو في بعكا؟
– سوف أشهد في المحكمة مع أبي عاطف بأنه من أبناء جيلي.
فقال له جاره مستغرباً: ولكن أبا عاطف أصغر منك بسنوات… حتى أنا أكبر منه!
-أعرف أعرف، ولكنني سوف أشهد معه…
-ولكن الحاكم سيطلب منك أن تضع يدك على المصحف وتقسم اليمين، وأنت رجلٌ تقي وحاج لبيت الله يا أبو إبراهيم! أتضيّع حجَّتك وتقواك لأجل ابن عمّتك!
فقال أبو إبراهيم بهدوء: لقد فكرت في الموضوع، لم أعرف النوم، فالخياران صعبان وهذا ليس هيّناً، هل أُغضب ربي كي يرضى ابن عمتي؟ أم أغضب ابن عمتي وأرضي ربي؟
لكن ابن عمتي فقيرٌ جداً، وفي بعض الأيام لا يجد قوت يومه، ووضعه محزن جداً، وهذا لا يرضي الله، وانتظار حصوله على مخصصات شيخوخة أربع سنوات أخرى، سيؤدي إلى تدهور حالته أكثر وأكثر، ولهذا سأشهد بأن جيله من جيلي، وكما تعرف، فهذه الدولة مِش ناقصها مصاري، ولن تفلس من بضع ليرات، كل مصاري أمريكا في ظهرها.
-وماذا مع قسم اليمين؟
-اسمع يا جاري، أنا وربّي سوف نتصالح بعد يوم أو يومين وسيغفر لي، ولكن تخيّل بأن لا أشهد معه، فما الذي سيحصل؟ سيتّهمني بأنني قطعت رزقه، وسوف يعاديني ولن يصالحني ولن يغفر لي إلى الأبد، وسوف تسوء حالته أكثر وأكثر، وأنا لن أتحمّل كل هذا، وللضرورة أحكام، ولهذا سأشهد وأقسم، وربُّ العالمين أدرى بالجميع.