قراءة في ديوان “عند أطراف الضمير” للدكتورة ريهان القمري
الشاعر السيد حسن | القاهرة
المديرالعام للبرامج الثقافية بالإذاعة المصرية
يظل عناق الطب والأدب دائماً موضع تأمل عميق وتقدير كبير، ذلك أن ما يحمل طبيباً أو صيدلانية إلى أن يفتح بوابة كبرى ينفذ من خلالها إلى عالم الأدب، على الرغم من كل درجات انغماسه في علوم الطب أو الصيدلة، لابد أن يكون موهبة كبيرة، وشغفاً أكبر بهذا العالم الساحر المراوغ (الأدب).
والدكتورة ريهان القمري قد مسها سحر الأدب، بل وأسرَها بصورة كاملة، فبدأت مشروعها الشعري منذ سنوات بعيدة، متجاوزة مرحلة التذوق والاستمتاع إلى مرحلة الإنتاج والإبداع، وهي في ذلك تتمتع بقدرة عالية على الدأب والمثابرة والإصرار على أن يخرج مشروعها الشعري بهي الطلعة، متقن السَّبك، رفيع الذوق الجمالي. تشعر بأنها في حالة ممارسة متصلة لطقوس الترويض، بحيث تروض اللغة لأفكارها ومشاعرها، وتروض العروض لذوقها الموسيقي الخاص، في الوقت نفسه الذي تحرص فيه على مفهوم الرسالة، فالقصيدة عندها لا تقف عند حدود الرسالة الجمالية فحسب، وإنما هي حريصة دائماً على أن يكون للقصيدة رسالتها الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية أيضاً، وهي في ذلك لا تستسلم للوهم الذي يرى وجود تناقض بين الالتزام الأخلاقي أو الاجتماعي أو الإنساني من ناحية، والانطلاق الفني والجمالي من ناحية أخرى، فهي تحاول دائماً أن تصل إلى الصيغة الذهبية في الموازنة بين هاتين الرسالتين.
تجئ هذه المجموعة الشعرية لتكمل ما بدأته الشاعرة في ديوانيها السابقين (أنت نفسي) و(ما زال قيدك آسري).
والمتابع لمشروعها الشعري سيجد أن هناك خيطاً ممتداً ينتظم القصائد كلها عبر الدواوين الثلاثة، وفي الوقت ذاته سيجد درجة من درجات التطور على المستويات اللغوية والموسيقية والبيانية، وهي تمنح كل مجموعة شعرية من المجموعات الثلاث، لوناً من ألوان التميز والتمايز.
ربما يكون الخيط المتصل متعلقاً بمفهومها للشعر ورساته وطريقتها الخاصة جدا في التعامل مع اللغة، بينما تتجسد درجات التطور في طريقتها في رسم الصورة الشعرية، بحيث إن هذه الطريقة تتسامى وتتعمق ديواناً إثر ديوان، بل وأوشك أن أقول قصيدة إثر قصيدة .. تقول في قصيدة (أمسِك بنايك):
غـــرد بنايك يا صغـــيري زر به
أعتى البحـــورِ بِلحـــنه ستمـــــورُ
وادفن جنين الحـزن بين رمالهــــا
همَّـــا يتيمــــا كفَّنته صخــــــــــور
الحزنُ” سيمفــونيةٌ”، تـُبكي الدّنـــا
والنـايُ” صـولو “صــادحٌ ويثـورُ
” كونشيرتو” حزنك يا صديقي بالسما
ءِ ومــــا بدُفك يلتقيــكَ ســـــــرورُ
الشاعرة الدكتورة ريهان القمري تعمد أحياناً إلى تغذية تيار نهر القصيدة برافدٍ درامي لا يخلو من الحس الإنساني الشفيف، على نحو ما نرى مثلا في قصيدة مثل (بينونة كبرى)، التي تستعير فيها من الدراما بعض ما بها من سمات، كما تلجأ إلى تقنية تعدد الأصوات داخل القصيدة وهو ما يُكسب قصيدتها كثيراً من الجاذبية ويبعد بها عن شرَك المباشرة أو فخ الخَطابية.
ومما يسترعي الانتباه في القصيدة الوطنية عند الدكتورة ريهان أنها تمزجها بالحدث الوطني الكبير الذي يرتبط بتاريخ مصر القريب جداً، على نحو ما تصنع في وقفتها الخاصة أمام العام 1956م وما شهده من تحديات وبطولات وتحولات فارقة على المستوى المصري والعربي، ولا أبالغ إذا قلت والعالمي أيضاً.
من القصائد التي تستحق وقفات تأمل كبيرة، القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها (عند أطراف الضمير) والتي تتأمل فيها الشاعرة ذلك المزيج الإنساني المدهش المحير من النور والصلصال، وهي القصيدة التي تقول فيها:
مــن نــورِ طينـي زُيِّنت مــــرآتي
للطيــنِ نــورٌ يحكـــمُ الشهــــواتِ
وأنا من الطمي الرطيبِ حُشاشـتي
للأرضِ تسعى ذرَّتـي و نواتـــي
والاختبــارُ هــو اختياري بينهـــــم
للطيـنِ و النــورِ الشـــبيهِ لـذاتــــي
هذا اختباري عند أطراف الضميرِ
رأيتُهُ صعبًــا، يزعـــزعُ ذاتـــــي
وأنا، مع الشيطان ترقصُ خطوتي
لكـنَّ مـن نفـس الخطـا سجـــداتي
طــينٌ و نورٌ يحمـلاني في المدى
نصــف ونصــف يَملكانِ صفـاتي
والشاعرة لا تخفي انحيازها إلى المكون النوراني وهو ما يتفق مع مفهومها الرسولي للأدب حيث تقول:
إنــي كــرِهتُ أديــمَ طينــي كلــه
هل تبدليــنَ الطيــنَ قبل وفاتي؟!
ومن الأمور التي يجب الإشارة إليها أيضاً أن الشاعرة تُضمِّن ديونها قصائد كتبتها في مساجلات أو مجاراةً لأبيات شاعرات صديقات، في مقدمتهن الأستاذة الدكتورة وجيهة السطل، التي تحمل لها الشاعرة كثيرا من التقدير المستحق والمحبة الصادقة، كما تفعل مثلا في قصيدة (مُتجذرون) التي كتبتها من وحي قصيدة دكتورة وجيهة حول لوحة متجذرون للفنان الفلسطيني نياز المشني.
وهكذا تأتي هذه المجموعة الشعرية لتمثل إضافة حقيقية في جسد المشروع الشعري الخاص بالشاعرة الدكتورة ريهان القمري، وما زالت الرحلة متصلة وما زال الإبداع متدفقاً.