علم النفس الإيجابي للمثابرة والمرونة
ترجمة وتنسيق وإضافة: د. محمد السعيد أبو حلاوة
إعداد: بول تي بي ونج Paul T. P. Wong
أولاً- مقدمة:
ما الاستراتيجيات الحياتية الأكثر فاعلية لتمكين الإنسان من الحياة والصمود survival and resilience ما السمات الأساسية التي تميز الفائقين رياضيًا وكبار المديرين التنفيذيين؟ والأكثر أهمية من ذلك: ما الفضائل الأكثر تمكينًا للإنسان من أن يعيش حياة جيدة؟
إن إجابة بول تي بي ونج لهذه الأسئلة هي نفس الإجابة: إنها المثابرة والتصميم والثبات والمواظبة المقترنة بالمرونة persistence and flexibility ولا يمكن تصور إنسان لا يحتاج إلى هاتين الفضيلتين لقتل ذلك التنين الداخلي في بنيتك والذي يبث فيك الخمول والتكاسل والتراخي والفتور.
وتمثل المثابرة والإصرار والتصميم العمود الفقري لذلك الأمل والتفاؤل الأبدي، بينما تجسد المرونة قدرة راقية تمكن الإنسان من التغلب على متاعب وشدائد الحياة وظروفها العصيبة وقهر كل عقباتها التي تقف بينك وبين أحلامك.
وإذا فهمت وطبقت ما علم النفس الإيجابي للمثابرة والتصميم والإصرار والمرونة، لن يمنعك مانع على الإطلاق من تحقيق النجاح إذا امتلكت القدرات والإمكانيات والمهارات المرتبطة بالمجال الذي تود تحقيق النجاح فيه.
ثانيًا- قيمة المثابرة المقترنة بالتصميم والإصرار “ضريبة المثابرة” Persistence pays:
تخيل نفسك في الأمتار الأخيرة لمارثون مجهد وشاق وطويل، ستجد أن جسدك يتألم بشدة يصرخ بشدة من أجل الأوكسجين، تصبح ساقيك مترهلتين ورخوتين. وأنت تنظر أمامك لخط النهاية الذي اقترب فتنزعج روحك، ربما تجد نفسك صارخًا “لن أستطيع؟ لن تفعلها؟ هذا الصوت السلبي بداخلك يزداد ارتفاعًا وارتفاعًا فتصبح على عتبة الانهيار التام. عند هذه اللحظة الحرجة: ما الذي يبقيك مستمرًا في جهدك؟ ما الذي يعززك عندما تكون كل الظروف في غير صالحك؟
هل بإمكانك التنقيب في بنيتك النفسية وحشد ما يصح تسميته احتياطي الطاقة الداخلية وتغيير ما يعرف بتروس الحركة النفسية، ألا يمكنك إيجاد ما يعرف بموجة ريح ثانية تدفعك إلى الأمام؟. إنه التصميم الذاتي والإرادي أو بعض من القوى السحرية بداخلك لحثك على المثابرة والإصرار وقودك لدفعك بكل قوة لخط النهاية.
والسؤال المركزي الذي يجب طرحه ما الذي يميز بين الفائزين والخاسرون على فرض تساويهم في القدرات والإمكانيات الجسدية؟ إن العامل الأساسي في هذا الأمر هو ارتفاع معامل المثابرة والاجتهاد والإصرار والتصميم في المواقف الصعبة والتي تدعو كثيرين إلى التوقف.
وما علينا إلا أن نتذكر عبقرية المثل الشعبي الرائع “من ضحك أخيرًا ضحك كثيرًا”، إنه رفض إرادي للعقبات والعثرات والإخفاقات رفضًا قائمًا على الكدح والاجتهاد والإصرار والتصميم على الوصول والاستمرار في الاندفاع إلى الأمام ولو حبوًا وزحفًا باتجاه الهدف دون افتقاد للرؤية أو انحراف في المسار.
وتناول بول تي بي ونج في مواضع كثيرة بصورة تفصيلية وصف وتفسير عديد من الفضائل ومكامن القوة الإيجابية من أهمها ما سماه مثل الارتقاء الإيجابي: التحمل endurance ، التصميم determination ، الالتزام والتعهد الذاتي commitment، وهي تمثل في نفس الوقت ما سماه مكونات المثابرة الهادفة الموجه نحو الهدف purposeful, goal-oriented persistence.
وقد يكون من المفيد هنا تذكير الجميع والتأكيد على قيمة تكرار مقولة كالفن كوليدج Calvin Coolidge الرئيس الثلاثون للولايات المتحدة: لا يمكن أن يحل شيء في العالم محل المثابرة: الموهبة لا، العبقرية لا، التعليم لا، إنها فقط المثابرة والتصميم قادرة على كل شيء}
ولكن لماذا يثابر الناس في مواجهة شدائد الحياة ومصاعبها وظروفها العصيبة، بينما يقع كثيرين في اليأس والشعور بالعجز؟ لماذا يتمكن بعض الناس من إدارة الذات للتغلب على العقبات دون استسلام أو تراجع، بينما يتميز آخرون بالنفس القصير ويتوقفون بسرعة؟ تكمن الإجابة في الفروق والاختلافات فيما بينهم فيما يتعلق بخبراتهم الماضية والتعلم.
وتعطينا نتائج الدراسات البحثية التي تناولت العجز المتعلم learned helplessness والمثابرة المتعلم learned persistence استبصارات بالغة القيمة لكيفية التمكين النفسي لماهية المثابرة في البناء النفسي للإنسان، وتفكيك بينة العجز المتعلم كواقع وجودي لكثير من الناس.
ثالثًا- العجز المتعلم Learned helplessness:
ما الذي يحدث للحيوانات عندما تتعرض لموقف تجريبي، تكون فيه الأحداث غير مسيطر عليها من قبلهم ولا قدرة لهذا الحيوانات في السيطرة على هذه الأحداث؟ ما الذي يمكن أن تتعلمه الحيوانات عندما يتيقنون أن سلوكهما لا يحدث أي أثر في الموقف ولا يترتب عليه أي نتائج؟
اكتشف مارتين سيلجمان وزملاؤه في العقد السابع والعقد الثامن من القرن العشرين (Peterson, Maier, & Seligman, 1995; Seligman, 1992) ما سمى بظاهرة “العجز المتعلم” وتم التحقق الإمبيريقي منها بالتجريب على الكلاب والفئران، ثم مؤخرًا وجدوا أن تقديم مشكلات تعليمية غير قابلة للحل لطلاب الجامعة وتكرار تعرضهم للإخفاق رتب لديهم كثيرًا من مؤشرات القصور الانفعالي والدافعي والمعرفي المجسدة للعجز المتعلم الذي سبق رؤيته لدى حيوانات التجارب، الأمر الذي دفع بسليجمان إلى الإشارة إلى أن الاكتئاب يسبب العجز المتعلم.
ووفقًا لنظرية العجز المتعلم، فإن تعرض الإنسان لأحداث يتعذر عليها السيطرة عليها أو ضبطها يولد لديه اعتقاد بأن الأحداث التالية في المستقبل ستكون هي كذلك خارج نطاق قدرته على ضبطها أو السيطرة عليها، وتنتج مثل هذه التوقعات السلبية ما يعرف ب: السلبية passivity ، انخفاض معامل الهمة والروح المعنوية demoralization ، وحتى الاكتئاب depression.
ومن الواضح أنه ليس كل من يتعرض لمواقف غير مسيطر عليها يصبح بالضرورة عاجزًا أو يصاب بالعجز المتعلم، وذلك لأن كثيرًا من مواقف الحياة هي خارج نطاق قدرتنا على السيطرة عليها، وفي الوقاع فإن الملاحظات اليومية ونتائج البحوث تظهر لنا أن معظم الناس قادرون على التوافق في مثل هذه المواقف بصورة جيدة.
وتأسيسًا على مثل هذه الأفكار وضع سليجمان Seligman (1996، 1998) مجموعة من الاستراتيجيات المعرفية للتفاؤل المتعلم learned optimism يمكن أن تقي الإنسان من العجز المتعلم.
وفي نفس السياق توصل أمزيل Amsel وبول ونج Wong إلى مجمعة من الاستراتيجيات السلوكية الأساسية للمثابرة المتعلمة يمكن أيضًا أن تقي الناس والحيوانات من العجز واليأس.
رابعًا- المثابرة المتعلمة ونظرية الإحباط Learned persistence and frustration theory:
صاغ أبرام أمزيل Abram Amsel (1992) نظرية الإحباط، وقام بول تي بي ونج (1995) بإثرائها وتوسيع مضامينها، وتبدأ هذه النظرية بالاعتراف بأن الكائنات الحية تعيش في عالم مفعم بالأحداث ذات الدلالات البيولوجية (المكافآت، عدم المكافأة، والعقاب)، وهي أحدث يصعب التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
وانطلاقًا من المعادلة البسيطة لميكانيزمات المثير ـ استجابة S-R mechanisms يمكن لنظرية الإحباط وصف وتفسير التأثيرات الدافعية والتعلمية المرتبطة بعدم الاتساق بين المكافأة وعدم المكافأة.
على سبيل المثال، يشير تعبير تأثير الإحباط إلى تثبيط السلوك بعد التعرض لسلسلة متتالية من الإخفاقات أو الافتقاد إلى التعزيز والمكافأة، من جانب آخر يشير تأثير المثابرة إلى ظاهرة زيادة المثابرة بعد التعرض للمكافآت الإيجابية (Amsel, 1992; Wong, 1995).
خامسًا- المثابرة المعممة والصمود Generalized persistence and resilience:
في نفس الوقت الذي نشر فيه كل من مارتين سليجمان وستيف مايير Martin Seligman and Steve Maier دراستهما عن العجز المتعلم، قام كل من أمزيل وبول ونج بنشر سلسلة من الدراسات عن “المثابرة المعممة generalized persistence” وهي ظاهرة تبدو مناقضة للعجز المتعلم، فقد عرضا الفئران والكتاكيت لمجموعة متنوعة من الأحداث المزعجة غير المسيطر عليها مثل: الصدم، والاستثارة المنفرة غير المثيبة، واكتشاف أنه إذا تم تقديم الأحداث السلبية بصورة تدريجية لتشويه أو إعاقة السلوك الموجه نحو الهدف goal-oriented behavior، فإن عادة المثابرة تميل إلى التعميم حتى في المواقف غير المسيطر عليها.
على سبيل المثال، إذا تعلمت الحيوانات التغلب على الإحباط في موقف، فإنها تتعلم الشجاعة لاحقًا في المواقف الأخرى المحملة بالصدمة، وبنفس المنطق، إذا تعلمت الحيوانات التغلب على الخوف والألم في موقف ما، فإنها تظهر التفاؤل المتعلم في المواقف اللاحقة حتى وإن حدث فيها إخفاقات. وقد لوحظ أن المثابرة المعممة ذات طابع دائم نسبيًا، ويبقى تأثيرها الإيجابي لمدة طويلة ويمثل نوعًا من المناعة النفسية للتأثيرات السلبية للأحداث الضاغطة ولظروف الحياة العصيبة.
ويرتبط بالمثابرة المعززة ما يعرف بالصمود المتعلم learned resilience، لما تؤدي إليه من تعلم الشخص للتوجه نحو مقاومة شدائد الحياة وضغوطها مع سرعة التعافي من تأثيراتها السلبية.
سادسًا- علم النفس الإيجابي للمثابرة المتعلمة The positive psychology of learned persistence:
ذكر ودي آلين Woody Allen أنّ 80% من النجاح ما هو إلا مظهر فقط، واستطيع أن أضيف أن هذه ال 80% هو في واقع الأمر في أي شيء يتضمن إيجاد السعادة happiness والمعنى meaning، إنه البقاء حيًا يقظًا فاعلاً، إنه ليس التفكير أو الشعور بل الفعل هو المهم في هذا السياق، إنه الفعل هو الذي يجعلك تنتقل من النقطة (أ) إلى النقطة (ب).
وعلى ذلك يؤكد في علم النفس التطوري Evolution psychology على أن التكيف مع البيئات المتغيرة باستخدام الميكانيزمات السلوكية المباشرة.
وبصورة أكثر دقة، ما هو الأكثر أهمية في الحياة هو المثابرة والإصرار والتصميم في أداء مهامها وأنشطتها اليومية، حتى وإن كنت تشعر بالاكتئاب أو القلق، ما عليك إلا أن تجتهد وتبذل كل ما في وسعك لتحقيق هدفك من الحياة.
وعلى الإنسان أن يكون على درجة عالية من تقبل الحياة والاحتفاء بها والامتنان لكل ما فيها، وأن يشكر الله دائمًا مع كل نفس وبتقدير لقيمة الحياة والإبحار فيها بأمل وتفاؤل مقترن بالتحمل والصمود.
وترتبط المثابرة بهذا المعنى بكل من التصميم والالتزام الذاتي بتحقيقك لأحلامك وطموحاتك في الحياة، وعليه فإن المثابرة المعممة من المحددات الأساسية للنجاح في الحياة.
سابعًا- المثابرة والصمود Persistence and resilience:
أمضى فلاتش Flach (2003) سنوات طوال في دراسة كيف يواجه الناس المأسى الكبرى والشدائد المرعبة في الحياة، فضلاً عن نقاط التحول الخطيرة أو الرئيسية في الحياة، ورأى أن السمات الأساسية لذوي المستوى المرتفع من الصمود تتمثل في:
الإبداع.
القدرة على تحمل الآلام الانفعالية والبدنية.
القدرة على اكتشاف طرقًا جديدًا للتعامل في الحياة.
وعادة ما يتم تنمية المثابرة والصمود لدى الأطفال غير وقايتهم من الإخفاق وتوفير كافة فرص التعلم التي تمكنهم من استثمار قدراتهم ومصادرهم النفسية resourcefulness في مواجهة شدائد الحياة وعثراتها.
وأشار (Flach, 2003) أيضًا إلى أن ذوي المستويات المرتفعة من الصمود يستخدمون طرقًا متنوعة وجديدة في تفسير الأحداث السلبية واستخلاص معناها ودلالاتها، وانطلاقًا من هذا التصور أفاد ونج وفرى (Wong & Fry, 1998) أنه إذا كانت 80% من الازدهار والنجاح في الحياة تعزى إلى المثابرة والتصميم والإصرار والدأب والكدح الإيجابي، فإن نسبة ال (20%) المتبقية تعزى إلى معنى الحياة.
ثامنًا- المثابرة والمرونة Persistence and flexibility:
المرونة استراتيجية أخرى من استراتيجيات التعايش في الحياة والإثمار الإيجابي فيها، وأكد تشارلز داروين على هذا المعنى بقوله “ليست أقوى الكائنات ولا التي أكثرها ذكاءً هي التي تبقى حية ومزدهرة، بل الكائنات القادرة على الاستجابة للتغير هي الكائنات الأكثر إعمارًا والأكثر بقاءً”، وعليه تعد القدرة على التكيف وتعديل الذات للتغير مفتاحًا مركزيًا للازدهار والنجاح في الحياة، كما يعبر عنها بالاستجابة المرنة للتغير برشاقة وإبداع agility and creativity، بما يعني أن المرونة تشعل كمية هائلة من الطاقة الداخلية للشخص في اي حركة تغير.
ولكن كيف ترتبط المرونة بالمثابرة؟ ميز بول تي بي ونج (1995) بين ما يعرف “المثابرة في الاستجابة response persistence ، والمثابرة لتحقيق الهدف goal persistence، إذ تشير المثابرة في الاستجابة إلى محافظة الشخص على عادة تكرار نفسي الاستجابة حتى وإن كانت غير مناسبة، بينما تشير المثابرة المتعلقة بالهدف إلى التزام الشخص وتعهده الإرادي والتماسك والصلابة ورباطة الجأش والجلد tenacity في متابعة الشخص لهدفه وتمسكه به واجتهاده وكدحه في سبيل تحقيقه. ومن الواضح أن المثابرة في الاستجابة أو مثابرة الاستجابة تضيق من نطاق المرونة، بينما تؤدي المثابرة المتعلقة بالهدف إلى تزويد الشخص بعديد من الفرض للتعبير عن المرونة بكامل نطاقها.
ويجدر الإشارة إلى نتيجة أحرى توصل إليها بول تي بي ونج من دراساته تشير إلى التداخل الدينامي بين المثابرة persistence والمرونة flexibility، وتتمثل في أن الكائنات الحسية تكون أكثر مثابرة في متابعة أهدافها والتمسك بها والسعي لتحقيقها عندما تولد بدائل متنوعة للاستجابة، فالكائنات الحية تثابر لمدة طويل وبأقصى ما لديها من طاقة وقدره عندما تكون حرة في استكشاف مسارات البدائل لتحقيق النجاح، فضلاً عن أن مستوى المثابرة يقل بصورة دالة عندما يكون أمام الكائن الحي أهدافًا متصارعة تشتته وتربك عمليات تفكيره وانفعاله وفعله(Wong, 1995).
ولتعظيم المثابرة الموجه نحو الهدف وتقويتها، يحتاج الشخص إلى التركيز على كل ما له قيمة وأهمية وتجاهل الفرص المتعارضة والمتنافسة، وفي الوقت يحتاج إلى أن يكون مبدعًا ومرنًا في تجريبه لبدائل مسارات تحقيق الأهداف.
وخلافًا لما يعرف لتاريخ التعزيز الجزئي partial reinforcement فإن المثابرة الموجه بالهدف تتطلب ما يعرف بالتزام الشخص ببعض القيم المحورية تضمن تحلقه حول كل ما له قيمة وقدر وتركيزه على الأهداف الكبرى في الحياة، والمرونة على الجانب الآخر تتطلب أو تقتضي أن نكون على درجة عالية من الرشاقة وسعة الحيلة لتغيير الأداءات والطرائق والفنيات من أجل تحقيق النجاح.
وتقتضي استراتيجية المرونة أيضًا التطبيق على المثابرة الموجه نحو الهدف goal-persistence، مع التعهد الذاتي والالتزام الإرادي واليقين بأن التخليل عن الأهداف الشخصية في الحياة له تداعيات سلبية على البناء النفسي للشخص، ومع ذلك يحتاج الإنسان بين الحين والآخر إلى إعادة تقييم أهدافه في الحياة، وعند نقطة ما من الارتقاء واختلاف الظروف قد يكون من الحكمة أن يعيد الإنسان ترتيب أولوياته أو حتى يغيرها. كما أن التغيير قد يكون إلزاميًا عندما ندرك أن طرائقنا في الحياة لم تعد مجدية، هنا يكون التغيير ضرورة للتكيف مع الواقع، بمعنى آخر ترتبط المرونة الموجه نحو الهدف بهذا المعنى كل من الانفتاح على التغير والالتزام الذاتي بمجموعة من القيم المحورية.
تاسعًا- الصور المتعددة للمرونة The many faces of flexibility:
التشبيه الأكثر تعبيرًا عن المرونة flexibility هو “المياه”، التي تتميز بخاصية شديدة الروعة وهي الانسيابية والتناسب مع أي موقف، إنها قادرة بإذن ربها على السريان التلقائي فوق، تحت وحول أي عقبة، إنها قادرة بإذن ربها على الاختراق، التبخر، والتجمد، وإذا اقترنت مرونتها وانسيابيتها بالمثابرة persistence تصبح المياه قادرة بإذن ربها على أن تحدث انهيارات أرضية وتفتيت الصخور القاسيات إلى رمال ناعمة ودقيقة، ومع ذلك تبقى سر الحياة وسر ديموميتها.
ووفقًا للاصطلاح الصيني القديم “الإنسان الحقيقي قادر على أن يتقلص ويتوسع، ويعرف كيف يعيش في الفقر وفي الرخاء” “الإنسان الحقيقي هو من يستطيع إثبات ذاته واقتداره الشخصي في الحياة في العسر واليسر”، وويورد بول تي بي ونج قصصًا لعديد من الأساتذة والأطباء الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية يعملون في وظائف وضيعة مثل تنظيف المكاتب بسبب إعاقتهم اللغوية، إنهم يعرفون أن وظائفهم لا تقدم تعريفًا حقيقيًا لهم ولا بهويتهم المهنية الكامنة فيهم، ومع ذلك لم يفقدوا يومًا حلمهم في تحقيق ذاتهم وتحقيق أحلامهم، كل ما يحتاجونه الصبر، المثابرة، الجلد، والمرونة، ويورد قصص نجاحات إنسانية كثيرة جدًا حققت أحلامها نتيجة مركب المثابرة × المرونة.
ومع ذلك تتضمن المرونة بعدي الليونة والقوة في نفس الوقت، فنبات الخيزران Bamboos شديد المرونة لكنه لديه في نفس الوقت قوة تجعله يقف شامخًا مطاولاً عنان السماء، والمياه مرنة وانسيابية ولديها قوة ربما تجرف كل ما يقف في طريقها في نفس الوقت، إذن المرونة بدون قدر من المتانة والجلد والصلابة تصبح ميوعة وسيولة وضعف، وهذا كل ما يجعل المرونة في حاجة دائمة إلى المثابرة والتصميم والإصرار والدأب والجلد، ألا ترى أن نبات القصب المجوف Hollow reeds ينحني مع الريح لكنه لا ينكسر، ألا تعلم أن ليس لقنديل البحر jellyfish عمود فقري ومع ذلك يبحر كالسهم في مياه لا حدود لها ولا طاقة لأحد بأمواجها العاتية.
ويفقد الشخص ماهيته واقتداره في الحياة إذا أبحر فيها بدون شعور ووعي واضح بذاته، بدون معرفته بوجهته ومساره فيها، بدون تحديده لمعنى حياته وغاياتها الكبرى، تضيع ماهيته إن ابحر في حياته ككائن راد للفعل يستجيب فقط لأنساق الاستثارة كيفما كانت، تضيع ماهيته كإنسان إن استكان وخضع لما أمامه، لكونه لا يعرف ماذا يريد، تضيع من الإنسان ماهيته وهويته كإنسان إذا افتقد شجاعة الانصياع لضميره، إذن المرونة بدون مبادئ قيمية موجهة لها تفسد الروح وتهين الوجدان وتوهن الهمة، إنها إبحار في الحياة بلا هدى ولا إثمار.
عاشرًا- كيف تدير التغير How to manage change:
المثابرة والمرونة استراتيجيات كبرى في الحياة، جزء أساسي من عتاد الإنسان ورأس ماله النفسي الحقيقي، لكونهما سر تمكينه من إدارة ذاته والتفاعل مع العالم الخارجي بروح الحرية والأمن freedom and security Spirit.
إذ يستطيع الإنسان أن يبحر في الحياة بمثابرة واجتهاد وأن يتحرك فيها بدون تشكيك في ذاته، عندما يعلم من يكون وإلى أين يريد الذهاب؟، كما يشعر الإنسان بالتحرر من القلق والخوف في مواجهته للغموض واللايقين عندما يهيئ نفسه للاستجابة مع أي تغير دون افتقادة وجهته ومساره في الحياة. إنها تركيبة المثابرة × المرونة تركيبة الظفر والفوز في الحياة، إنها جناحي التحليق بك في فضاء الإيجابية بالرغم من العواصف والاخفاقات.
ويجدر الإشارة إلى أن غالبية الناس يخشون التغير بسبب تهديده للطريقة التي اعتادوها في الحياة وربما يولد شعورًا ما بعدم الأمن، وعلى ذلك يفضلون بقاء الوقائع والأحداث على النحو الذي ألفوها به، وبالتالي يستكينون لكل ما تلقي به الحياة عليهم.
ولسوء الحظ سرعت الابتكارات التكنولوجية من إيقاع حركة التغير الاجتماعي ووسعت من نطاقها بصورة مخيفة، ربما انهارت معها عديد من الأعراف والتقاليد الثقافية التي كانت سائدة في عديد من المجتمعات، لدرجة تهكم عديد من الشباب عليها ووصم من يتمسك بها بأنه خارج إطار الزمن، إن كثيرًا من الأنساق والتقاليد القيمية عجزت عن أن تقف في وجه موجات العَّلمانية والمادية القابضة بتلابيها على الحياة المعاصرة.
إن الأزمة الثقافية المعاصرة التي نعيشها في عالمنا الحالي، تستدعي منا تعهدًا ذاتيًا إراديًا بالعودة إلى هويتنا كبشر أسمى ما فيه التواد والتراحم والرفق والتعاطف والتسامح والإيثار والإحسان، إننا بحاجة إلى أن نسد حالة جوعنا إلى الحب الإنسان، والإبحار في الحياة بيقين تام وبقلب ثابت بالمعرفة بأن ليس للحياة معنى إنساني حقيقي بدون متاعب بدون تحديات بدون مصاعب، وبدون إبداع.
إن مشكلات الحياة المعاصرة التي يعاني منها الإنسان إنما تتمثل فيما يعرف “بأزمة المعنى crisis of meaning” بما يحتم علينا التعلق بكل ما له قيمة ومعنى، بالتخارج من تخوم الذات بضيقها وأنانيتها إلى التعلق بكل ما هو نبيل وراق ومتسامٍ، بإعادة الروح للقيم الإنسانية العامة التي تدور في طابعها الإجمالي حول قيم: الحق والخير والجمال.
وبمجرد معرفة الإنسان بذاته وبما هو محل تقدير وجدارة وقيمة في الحياة، يمكن فقط أن يندفع كشلال جارف في الحياة لتحقيق الأهداف والغايات الإنسانية لها وتشكيل حياة إنسانية جيدة وصالحة بعزم وإصرار ومثابرة وجلد وثبات وتماسك.
أحد عشر- المراجع:
1- Amsel, A. (1992). Frustration theory: An analysis of dispositional learning and memory. New York: Cambridge University Press.
2- Buss, D. M. (2005). The handbook of evolutionary psychology. New York: John Wiley.
3- Flach F. F. (2003). Resilience: Discovering a new strength at times of stress. New York, NY: Hatherleigh Press.
4- O’Neill, N., & O’Neil, G. (1967). Shifting gears: Finding security in a changing world. New York: McGraw-Hill.
5- Peterson, C., Maier, S. F., & Seligman, M. E. P. (1995). Learned helplessness: A theory for the age of personal control. Wellington Square, UK: Oxford University Press. Reprint Edition.
6- Seligman, M. E. P. (1992). Helplessness: On depression, development, and death. New York: W. H. Freeman & Company. Reprint Edition.
7- Seligman, M. E. P. (1996). The Optimistic child: Proven program to safeguard children from depression & build lifelong resilience. New York: Harper; Paperback edition.
8- Seligman, M. E. P. (1998). Learned optimism: How to change your mind and your life. New York: Free Press; Reissue paperback edition.
9- Wong, P. T. P. (1995). Coping with frustrative stress: A behavioral and cognitive analysis. In R. Wong (Ed.), Biological perspective on motivated and cognitive activities. (PP: 339-378). New York: Ablex Publishing.
10- Wong, P. T. P., & Fry, P. S. (Eds.). (1998). The human quest for meaning: A handbook of psychological research and clinical applications. Mahwah, NJ: Lawrence Erlbaum Associates, Inc. Publishers.
المصدر:
Paul T. P. Wong (2006). The Positive Psychology of Persistence and Flexibility. Dr. Paul T. P. Wong. Retrieved from http://www.drpaulwong.com/the-positive-psychology-of-persistence-and-flexibility