أ.د محمد سعيد شحاتة
تشتمل مجموعة (طقس اللذة) للكاتبة منال رضوان على ثلاثين قصة تتنوع بين الطول والقصر، وتحاول أن تصاحب المشاعر الإنسانية في تقلباتها المختلفة، وتموجاتها صعودا وهبوطا، فتتحدث عن الحب وعن الفقد، كما تتحدث عن الخداع والإيهام، وعن المعاناة الإنسانية، وهي موضوعات تناولتها أقلام الكتَّاب بأشكال مختلفة، ولكن المتأمِّل في مجموعة طقس اللذة يمكن أن يرصد جانبا آخر قد لا يلتفت إليه البعض، وهو رسم ملامح لمجموعة من القيم تمثل مرتكزات الرؤية الفكرية التي تسعى الكاتبة جاهدة في إبرازها؛ لتمثل منظومة قيم لكل من يريد أن يرتقي سواء كانوا أفرادا أو مجتمعات، ومن القيم التي تنتبه إليها المجموعة قيمةُ الحرية، وهي من المرتكزات الأساسية التي نراها في المجموعة، ففي قصة العصا المقدسة نستشعر اهتماما بالغا بقيمة الحرية، وبخاصة عند الأطفال، ولكن المفارقة التي تتحرك من خلال هذه القيمة/الحرية في القصة أن تأتي التنبيهات – على ضرورتها – ممن مارسوا حبسها عن الآخرين، تقول (كثيرا ما أجده يتكلم عن الحرية.. أكاد أجزم أنها القيمة الوحيدة التي يعتنقها) ثم تكون المفارقة حين نعلم أن من يعتنق الحرية قيمة وحيدة هو من مارس القهر على الآخرين (يتندر أحدهم مازحا: إن هذا الثمانيني الضخم كان مديرا لأحد أعتى المعتقلات، وقد أعفي من منصبه نتيجة تورطه في قضية أدانته بالتعذيب…) وهنا تنفتح الدلالة على أكثر من توجيه، فهل كان النص يريد أن يكشف لنا أن قيمة الحرية لا يعرفها إلا من شاهد فقدانها عند الآخرين؟ أو أراد أن يشير إلى أن الحرية لاينبغي أن يتحدث عنها من ساعد في حبسها عن الآخرين؟ أو الإشارة إلى افتقادنا للشعور بالحرية حتى وإن كان من مارس حبسها عنا قد تخطاه الزمن، وأعفي من منصبه؟ كل هذه الدلالات وغيرها يمكن استنباطها من المفارقة التي أوردها النص، وتزداد الدلالة انفتاحا على تأويلات أخرى حين كان يمارس هذا الثمانيني لعبة إسقاط عصاه التي يتوكأ عليها فيهرول الناس إلى التقاطها (كانوا يتسابقون نحو العصا… أدركتُ بمرور الوقت أن جميعهم يدركون ما يفعله، ويجيدون التصرف حيال لعبة العصا، ولعلهم يعرفون أنه وإن أعفي من منصبه إلا أنه يحمل مكانة يمكنها أن تؤرقهم، فيؤثرون السلامة، ورفع العصا بالاحترام الواجب) ومن اللافت أن كل توجيه للتأويل من التوجيهات السابقة يجد ما يبرره في النص.
ومن القيم التي تهتم المجموعة بإبرازها كذلك قيمة الانفتاح على الآخر، من خلال عقد المقارنة بين طرفين من أطراف المجتمع؛ ليتكشف لنا ما يخلِّفه الانغلاق من تدمير للشخصية الفردية والمجتمعية، فتصبح حياة الإنسان بلا معنى ولا هدف، وتتحكم الخرافة في العقول، وتحكم حياة البشر، ويبدو ذلك واضحا في قصة مراكب بلا أشرعة؛ إذ تحكي الراوية عن تحطم مركبها في قرية نائية غريبة الأطوار، ويضعنا النص منذ البداية في بؤرة الخرافة (أقبع هنا منذ أن تحطم مركبي في قرية نائية غريبة الأطوار؛ حيث الخيام بلا أوتاد، والمراكب بلا أشرعة، والظلام) إن هذه البداية تشير إلى أن الخرافة ستحكم هذا المجتمع، وتتحكم في قرارات أهله والقائمين عليه، مما يمثل انحرافا فكريا واجتماعيا، ومن ثم السير بالمجتمع وأفراده نحو تأويلات خرافية لمفردات حياتهم، تقول (كانوا ينصبون خيامهم بتراتيل من كاهن القرية، وهي تعاويذ قديمة بكتاب من نسخة واحدة محفوظة بدماغه …) ولكنهم توجسوا منها؛ لأنها أخبرتهم أنهم يمكنهم استخدام الأخشاب في بناء بيوت وأشرعة، وهنا تأتي الخرافة الحاكمة للعقول والمتحكمة في القرارات؛ إذ إن الاقتراح يمثل تدميرا لتاريخهم المتوارث، ومعتقداتهم التي يركنون إليها. إن هذه العقول التي ترى الآخر شيطانا رجيما لا يمكن إصلاحها، وهنا أيضا تنفتح الدلالة على تأويلات متعددة، ولا أمل لمثل هذه المجتمعات المنغلقة في النجاة إلا من خلال الأجيال الصغيرة التي لم تتلوث عقولها بخرافات الكبار، وتشكيل عقول هذه الأجيال وفق أسس ومنطلقات تقودها نحو الانفتاح على الآخر، تقول (لم يكن لي صديقة سوى أوناي، فتاة صغيرة لديها من الأعوام ملء الكف الواحدة، ذات ابتسامة نقية تركض عندما تشاهدني؛ لترتمي في صدري.. يحاول بعض الأشخاص إبعادها، لكنها تضربهم… فينصرفون تباعا مخافة أبيها القاضي) وهنا المفارقة الدالة؛ ففي الوقت الذي يبتعد أهل القرية عن الغريب/الراوية تقترب منه أوناي/الطفلة؛ لأن عقلها لم يتشكل بالخرافة بعدُ، فهل تشير القصة إلى منظومة القيم ودورها في التحكم في المجتمعات، ومن ثم انحيازاتها الفكرية والاجتماعية؟ أو تشير إلى أن الاستناد إلى الموروث الفكري والديني والاجتماعي يقود المجتمعات إلى مزيد من التخلف والخرافة؟ ومن ثم تصبح الضرورة ملحة في التقاطع مع هذه الموروثات، وغير ذلك من التأويلات التي تجد لها ما يبررها في النص.
ومن القيم التي ترتكز عليها المجموعة أيضا قيمة الوفاء، وتتجلى هذه القيمة بوضوح في قصة (طقس اللذة) وتبدو المفارقة أيضا في عنوان القصة؛ إذ يحمل دلالتين، الأولى دلالة روحية مستقاة من لفظ طقس بما يحمله من ظلال تراكمت عبر السنين، أما الدلالة الثانية فهي دلالة مادية نشأت من استخدام لفظ اللذة بما يحمله من إيحاءت، فإذا شكلنا من اللفظين تركيبا إضافيا/طقس اللذة ينصرف الذهن إلى ممارسة اللذة المادية بما يضفي عليها من هيبة الطقوس، والنص الإبداعي يحمل ما يدل على ذلك ويبرره؛ فالبطل مارس اللذة المادية بما يكفي لإضفاء الجانب المادي على الدلالة، ولكنه في الوقت نفسه مارس الجانب الروحي؛ إذ رعى أمه الريفية العجوز حين أضاعت بطاقة علاجها المجاني نتيجة ذاكرة مرتجفة، ولكنه لم يغضب، بل ابتسم في شفقة، وأخذ على عاتقه العمل من أجل جلسات علاجية بمقابل مادي، وحين تدهورت أحواله، وغادرته الدنيا ورفاهيتها، وأصيب بما أصيبت به أمه تجلى الوفاء في نهاية القصة؛ إذ جاءته ابنته التي أسقطها هي وأمها من ذاكرته أيام زهوه ورفاهيته؛ لتذكره بما فعل مع جدتها، وتقول له (أبي، هاك بطاقتك) لتأخذنا القصة وتأويلاتها إلى الكشف عن القيم العليا الكامنة في النفس الإنسانية؛ ليكتمل بذلك مثلث اللذة وقيمه الكبرى الحاكمة، وهي الحرية والانفتاح على الآخر والوفاء، إلى جانب مجموعة أخرى من القيم التي تنضوي تحت كل قيمة من تلك القيم الكبرى، وبذلك تحاول المجموعة تشكيل ملامح لمنظومة قيم حاكمة للنفس البشرية يمكن الاتكاء عليها.
وتستخدم الكاتبة العديد من آليات تشكيل المعنى وإنتاج الدلالة، فتستخدم المعادل الموضوعي أحيانا، كما في قصة عطر زائف؛ إذ تعادل بين زيف العطر وزيف الأفكار، في محاولة للكشف عن الوهم الذي يمكن أن يسيطر على الإنسان فيدفعه إلى الانحياز الفكري لقضية تبدو عادلة، ولكنها تخدم توجها شخصيا لمن يقوم بتزييف الحقيقة من خلال استخدام مقدمات تبدو مقنعة؛ لخداع الآخرين في الوقت الذي يسعى فيه للحصول على مجد شخصي، وبمقدار وقوع الطرف الآخر في حبائل الوهم يكون تحقيق الهدف المنشود، وكذلك تستخدم تيار الوعي، كما في قصة (من وحي ليلة عاجزة) ففي الوقت الذي تذهب فيه إلى المستشفى مستندة على يد ستينية هادئة تطمئنها، وتستدعي الطبيب نجد استدعاء لوالدتها في حوار يعود إلى أيام الطفولة، وكذلك تستخدم الكاتبة المونولج الداخلي في الكشف عن خفايا النفس، ومكنون الضمائر.