الكشف عن سمات الرومانسية في قصيدة: ،، منديلك ،، للشاعر العماني سعيد الصقلاوي
قصيدة منديلك، من ديوان “وصايا قيد الأرض”
بقلم: د. ناريمان عساف
على حافة المخاض، والعالم في حالة فوران، تشدّنا أبيات شعرية لننسى ضجيج وسوداوية المشاهد الدوليّة.. أبيات من قصيدة تنتمي للمدرسة الرومانسية بكل ما في الكلمة من معنى، تُوقّعها رسوم باللون، والاسم والسمع، والتجريد. والقصيدة هي قصيدة منديلك، من ديوان “وصايا قيد الأرض” للشاعر العماني سعيد الصقلاوي، وقد سجّلت هذه القصيدة سمات الرومانسية المتغلغلة بين طيّات أبياتها، معتمدة على المشاعر الراقية، والدافئة، مضفية حزنها على الصور الشعرية التي تلوّنت ببنفسجية المعاناة. هذا، وقد اتّبعت في تحليلها المنهج البنيوي الذي يكشف المعنى من خلال دراسة أبعاد المبنى. والقصيدة تتحدّث عمّا أثار منديل الحبيبة في الشاعر من أحاسيس. والصور الشعرية في هذه القصيدة قائمة على التركيب اللغوي. ففي مقدمتها نجد أن المقطعين الأوليّن مبنيّين على التزاوج بين الجمل الاسمية التي رسمت الظاهر، اي الكلمة المفتاح للقصيدة: المتديل. والفعلية التي دلت على استمرارية تدفق العواطف:
“منديلك الموشوم بالأحلام
قد خبّأته الريح
وشعرك المطروز بالأيام
قد نثّرته الريح
ذكرى تحلٍق الجناح”.
توازن وتنسيق للجمل، فالنعت يسند المنعوت، تبعته جملتان فعليتان افادتا حركة أحاسيس الشاعر في الماضي ” قد خبأته الريح”. ” قد نثرته الريح”. والبيت الأخير جاء ليختصر المضمون. والملاحظ هنا أن كل جملة فعلية اتت مؤكّدة للجملة الاسمية التي تبعتها بحرف قد، الذي تصّدر البيت. والقيمة الإبداعية تكمن في كشف أحاسيس المرأي أي المنديل، لذكرى ولعه بمن أحب، وأثر هذا في الإنتاج الإبداعي الذي تمّ. ويتابع الشاعر في عرض أحاسيسه، ولكن في تركيب لغوي آخر: جمل فعلية مؤلّفة من فعل ماض، يفيد حركة الحالة النفسية للشاعر، أُُسند إليه ضمير متصل في محل رفع فاعل، تبعه جار ومجرور مكون من مفردات مستمدة من الطبيعة تفيد طول المعاناة.
“ًٍبحثت في الحقول، في الصحراء، في المواسم عن همس جدول المنى
بحثت في القرى وفي العواصم عمّن انا، عن شكلنا … ولوننا
فتّشت في العيون
فتشت في الأنغام عن ضحكنا الحنون عن وردة الكلام عن زحمة النظرات في خنة البحور ، بحثت عن رؤاك
لما انحنت زهور أدركت لن اراك”
والملاحظ التوازن الواضح في حشو الأبيات التي اعتمدت على شبه الجمل التي يتصدرها حرف الجر ”عن”، وفي هذا إحساس بالفقدان يثبته حرفا المد: الألف المقصورة والألف الطويلة. وقد كوّنت أداة الشرط لمّا، التي أفادت الظرفية، وأتت بمعنى عندما، بوابة لنهاية القصيدة، فكانت بنيويا كالقفل الأخير، الذي أقفل أبواب الأمل، فشكّل عنصر المفاجاة، بالتضامن مع الالتفات في الأسلوب من لا مباشر إلى المباشر: “لمّا انحنت زهور، أدركت: لن أراك”.
بالنسبة للشعرية فهي فائضة، نظرا لتنوع صورها، الحاضنة للهدف الوجداني، وقد أصابت نظرا لأسلوبها. علما أن هذه الصور تراوحت بين المجاز العقلي واللغوي. هذا، وقدانقسمت القصيدة إلى مقطعين مختلفين في التركيب اللغوي، لكنها لم تنقسم في الإيحاء الشعري، فجاءت المجازات العقلية فيها أولاْ، ثم اللغوية. “المنديل جسد، موشوم بحلم عودة الماضي، والشَعر المغطى تجملّه ألوان أيام الحب. وأتت فيما بعد استعارتان تصريحيتان. فالريح رمز المشاكل التي أبعدت الحبيبين، فهو الذي خبأ رؤيا هذا المنديل بغباره، ثم نثرها، وبعثرها، حتى أصبحت ذكرى، تمّحي وتطير من الذاكرة .
بعد هذه التقنيّة الفنيّة، تأتي صور البحث والتفتيش لتبعث الأحساس بالوجع والألم. والبحث هو عنوان فقدان الحدث الذي أتت صوره على أشكال كلّها تخدم المعنى المراد: بحثت في الحقول…بحثت في الصحراء، المواسم… القرى، والعواصم، والعيون. وكل هذه الرموز تدلّ على الفضاء الشعري الواسع، المستمد من صور الطبيعة، أي الذكرى التي تقترب من أن تصبح سرابا، لكونها لن تتكرر. وهي مجسّدة بكنايات معبرة عن دافع التعبير عن دفء الذكرى والحب الضائع: عن زحمة النظرات في خنّة البحور. فزحمة النظرات تدل على ولع الحبيبين ببعضهما، أما خنة البحور، فهي دلالة على التشوش، والضياع عن شكلنا ، لوننا، ضحكنا الحنون، ووردة الكلام.
على الصعيد الصوتي، نلاحظ في قصيدة منديلك أن الأصوات تشكّل لوحة صوتية لعمق الإحساس، فحرفا المد: الألف والواو يكتسحان الأبيات، ليعبرا عن الانجذاب الروحي للمنديل الذي يرمز لحبيبته فمد الواو يغزو حشو الابيات: “الموشوم، تنور، المطروز، الحقول، السهول، العيون، الحنون،البحور، وزهور”. ولمدٌ الواو دلالة على الشدّة والمعاناة الناتجة من ضمّ الشفاه. ومدّ الألف يغزو القافية في: “:بالأحلام، الصباح، بالأيام، الجناح، العواصم، لوننا، روحنا، الأنغام، الكلام، الوئام، رؤاك، أراك”. وهذه الامتدادات تشكل فضاء رحبا، ومساحة مناسبة لإخراج دفعة المعاناة المؤلمة، بعد الافتراق. ونلاحظ مدّ الياء الذي تكرّر مرتين في كلمة: الريح في بداية القصيدة. ليعبّر عن الأسى والحزن، والانكسار إزاء حكم القدر عليه بالافتراق عن حبيبته. وهذا التعبير برز واضحا في آخر القصيدة، إذ يقول: “أدركت: لن أراك”.
إن الأسلوب المباشر أعطى القصيدة روح المخاطبة، ولكن بهمس وانكسار. وقد توخى الشاعر التكرار وسيلة لتأكيد أفكاره في مثل “الريح، و”فتشت”. بالنسبة للوزن، تعتبر القصيدة من شعر التفعيلة، أذ إن الشاعر اعتمد تفعيلة الرجز مستفعلن، و التدوير فيها تمّ في التفعيلة الثالثة من البيت الأول: “بالأحلام ” مع حرف “قد” في بداية البيت الذي يليه، كذلك الأمر تمّ بين كلمة الأيام في البيت الثالث، وبين حرف “قد” في بداية البيت الرابع.
وفي المقطع الثاني نجد أن الشاعر استعمل تفعيلة مفاعلَتنْ في كلمة: المواسم مع “عن”، وفي عبارة العواصم “عمّن”. للدلالة على الحبيبة في “من”. والقافية أتت متنوعة حسب دفعة الأحساس، وقد شكّلت عبارة “لن أراك”، في نهاية القصيدة عنصر المفاجأة، الذي أعطى الإحساس بالصدمة. والإفشاء عن سبب المعاناة الرئيس. أرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في هذا النقد الأدبي، وأن أكون قد أعطيت القصيدة حقّها في البوح.