لماذا نقرأ الأدب؟
تأليف: ماريو بارغاس يوسا
ترجمة: راضي النماصي
دائمًا ما يأتيني شخص حينما أكون في معرض كتاب أو مكتبة، ويسألني توقيعًا، إما لزوجته أو ابنته أو أمه أو غيرهم، ويتعذر بالقول بأنها “قارئة رائعة ومحبة للأدب”. وعلى الفور أسأله: “وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة؟”، وغالبًا ما تكون الإجابة: “بالطبع أحب القراءة، لكني شخص مشغول طوال الوقت”. سمعت هذا التعبير العديد من المرات، وهذا الشخص وبالطبع الآلاف مثله لديهم أشياء مهمة ليفعلوها، فهناك التزامات كثيرة ومسؤوليات أكثر في الحياة، لذلك لا يستطيعون إضاعة وقتهم الثمين بقراءة رواية أو ديوان شعر أو مقال أدبي لساعات. استنادًا إلى هذا المفهوم الواسع، فإن قراءة الأدب هي نشاط كمالي يمكن الاستغناء عنه؛ لا شكّ بأنه يهذب النفس ويزودها بالأخلاق الحميدة وبالإحساس بمن حولها، لكنه في الأساس ترفيه، ترف للأشخاص الذين يملكون وقت فراغ. هو شيء يمكن وضعه بين الرياضات أو الأفلام أو لعبة شطرنج؛ وهو نشاط يمكن أن نضحي به دون تردد حينما نرتب «أولوياتنا» من المهام والواجبات التي لا يمكن الاستغناء عنها في سعينا الحياتي الشاق.
يبدو بشكل واضح أن الأدب شيئًا فشيئًا يتحول إلى نشاط نسوي. في المكتبات، وفي المؤتمرات الخاصة بالكتّاب، وحتى في كليّات العلوم الإنسانية، نرى بوضوح أن النساء أكثر من الرجال. وهذا الأمر يُفسَّر عادةً أن نساء الطبقة المتوسطة يقرأن أكثر لأنهن يعملن لساعاتٍ أقل، لذلك يستطيع العديد منهن تخصيص وقت أكثر من الرجال لقراءة القصص والتفرغ للوهم الذي تخلقه الكتب. وأنا – بشكلٍ ما – أتحسس من التصنيفات التي تفصل النساء والرجال بشكل جامد، وتنزع لكل من الجنسين طبعه الخاص ونتائجًا تترتب من هذه الطباع. لكن مما لا يشك فيه أحد هو أن قراء الأدب في تناقص، وأن غالبية الباقين من القراء هن نساء.
هذا الأمر يحدث في كل مكان تقريبًا. في إسبانيا – على سبيل المثال – كشفت إحصائية حديثة أقامها اتحاد الكتاب الإسبان أن نصف السكان لم يقرؤوا كتابًا من قبل، وكشفت أيضًا أن النساء ضمن الأقلية التي تقرأ يتعدين الرجال بنحو 6.2%، وأن هذا الفارق يزداد مع الوقت. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا تركها.
هم لا يثيرون الشفقة لأنهم يجهلون المتعة التي تفوتهم فحسب، بل أيضًا لأني مقتنع بأن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. أود أن أطرح تفنيدات لفكرة أن الأدب نشاط للمترفين، وأن أعرضه كنشاطٍ لا يستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديمقراطي، أي مجتمع مواطنين أحرار.
نحن نعيش في عصر تخصص المعرفة، وذلك بفضل التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وبفضل تقسيم المعرفة إلى وحدات صغيرة وعديدة. وهذا الاتجاه الثقافي سيستمر بالنمو لسنوات قادمة. للتأكيد، فإن التخصص له منافع عديدة. فهو يسمح باكتشاف أعمق وتجارب أعظم وأكبر، وهو محرك التقدم والتنمية. غير أن له أيضًا عواقبه السلبية، فهو يمحي الصفات الفكرية والثقافية بين الرجال والنساء، والتي تسمح لهم بالتعايش، والتواصل، والإحساس بالتضامن فيما بينهم. يؤدي التخصص إلى نقص في الفهم الاجتماعي، وإلى تقسيم البشر إلى جيتوات[1] من التقنيين والأخصائيين. إن تخصيص المعرفة يتطلب بالتالي لغة دقيقة ورموزًا تزداد غموضًا كل مرة. وبالتالي، فإن المعلومة تصبح أكثر عزلة؛ وهذا هو التخصيص والتقسيم الذي كان يحذرنا منه المثل القديم: “لا تركز كثيرًا على غصن أو ورقة، وتنسى أنهما جزء من شجرة. ولا تركز على الشجرة فتنسى أنها جزء من غابة”. يخلق الوعي بوجود الغابة شعورًا بالجماعة وإحساسًا بالانتماء، ذلك الشعور الذي يربط المجتمع ببعضه ويمنع تفككه إلى عدد لا يُحصى من الأجزاء بسبب هوس الخصوصية الأناني بالنفس. لم يخلق هوس الأمم والأشخاص بأنفسهم إلا الارتياب وجنون العظمة، وتشويهًا في الواقع هو ما يولّد الكراهية، الحروب، وحتى الإبادات الجماعية.
لا يمكن للعلم والتكنولوجيا في عصرنا الحالي أن يكمل بعضهما الآخر، وذلك للثراء اللامتناهي من المعرفة وسرعة تطورها، والذي قادنا إلى التخصصات وغموضها. لكن لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم المشتركة لدى التجربة البشرية، والتي يتعرف البشر من خلاله على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز التاريخ؛ كقرَّاء لكلٍ من ثيرفانتس، شكسبير، دانتي، وتولستوي. نحن نفهم بعضنا عبر الزمان والمكان، ونشعر بأنفسنا ننتمي لذات النوعية، لأننا نتعلم ما نتشاركه كبشر من خلال الأعمال التي كتبوها، وما الذي يبقى شائعًا فينا تحت كل الفروقات التي تفصلنا. لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: أن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال.
لا يوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والاجتماعية ثراء الجنس البشري، ولا يوجد ما هو مثل الأدب لكي يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. صحيح أن قراءة الأدب مصدر للمتعة، ولكنه أيضًا مصدر لمعرفة أنفسنا وتكويننا عبر أفعالنا وأحلامنا وما نخاف منه بكل عيوبنا ونقائصنا، سواء كنا لوحدنا أو في خضم الجماعة، وسواء كانت تلك الملاحظات تبدو ظاهرة للعيان أو تقبع في أكثر تجاويف الوعي سرية.
هذا المجموع المعقد من الحقائق المتعارضة – كما يصفها أشعيا برلين[2] – يشكل جوهرًا للحالة الإنسانية. في عالم اليوم، لا يوجد هذا المجموع الضخم والحي من المعرفة في الإنسان إلا في الأدب. لم تستطع حتى فروع العلوم الإنسانية الأخرى – كالفلسفة أو الفنون أو العلوم الاجتماعية – أن تحفظ هذه الرؤية المتكاملة والخطاب الموَحَّد. خضعت العلوم الإنسانية أيضًا لتقسيم التخصصات السرطاني، وعزلت تلك التخصصات نفسها في أقسام مجزأة وتقنية بأفكارٍ ومفرداتٍ لا يستوعبها الشخص العادي. يود بعض النقاد والمنظرين تحويل الأدب إلى علم، وهذا ما لن يحصل أبدًا، لأن الكتابة القصصية لم توجد لتبحث في منطقة واحدة من تجربة الإنسان. وُجدت الكتابة لكي تثري الحياة البشرية بأكملها من خلال الخيال، والتي لا يمكن تفكيكها، أو تجزئتها إلى عددٍ من المخططات أو القوانين دون أن تضمحل. هذا ما قصده مارسيل بروست حينما قال أن “الحياة الواقعية، هي آخر ما يكتشف وينوَّر. وأن الحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها هي الأدب”.
لم يبالغ بروست عندما قال ذلك، ولم يكن كلامه مجرد تعبير عن حبه لما يجيد. كان يقدم قناعته الخاصة بأن الأدب يساعد على فهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل، وأن العيش بطريقة أقرب للكمال يتطلب وجود الآخرين بجانبك ومشاركتهم الحياة.
هذا الرابط الأخوي، الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب، يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحو جميع الحواجز التاريخية. ينقلنا الأدب إلى الماضي، إلى من كان في العصور الماضية قد خطط، استمتع، وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا، تلك النصوص التي تجعلنا أيضًا نستمتع ونحلم. الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو أعظم إنجاز للثقافة، ولا شيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب.
كان بورخيس ينزعج كثيرًا كلما سُئِلَ “ما هي فائدة الأدب؟”. كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجاوب بأنه “لا أحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل.”. إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟ لكن السؤال جيد بالفعل، لأن الروايات والقصائد لا تشبه بأي حال تغريد الكناري أو منظر الغروب؛ فهي لم توجد عن طريق الطبيعة أو المصادفة، بل هي إبداعات بشرية. ولذلك فمن اللائق أن نسأل كيف ولماذا أتت إلى العالم، وما فائدتها ولماذا بقت كل هذه المدة.
تأتي الأعمال الأدبية – في البداية كأشباح بلا شكل – أثناء لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعي الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في ذات الوقت. وهي ذاتها تلك الأمور التي يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات لينتج بشكل تدريجي شكل النص، وإيقاعه، وحركته وحياته. صنعت اللغة هذه الحياة المصطنعة، وللدقة هي حياة مُتخَيلة، وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة. بعضهم بشكل متكرر، والبعض الآخر بشكل متقطع؛ وذلك لأنهم يرون أن الحياة الواقعية لا ترقى لهم، وغير قادرة على تقديم ما يريدون. لا ينشأ الأدب من خلال عمل فردٍ واحد، بل يوجد حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الاجتماعية عندما يتحول، وبفضل القراءة، إلى تجربة مشتركة.
تكمن إحدى منافع الأدب للشخص في المقام الأول في اللغة. المجتمع الذي لا يملك أدبًا مكتوبًا يعبر عن نفسه بدقة أقل، وبشكل أقل وضوحًا من مجتمع يحمي طريقة التواصل الرئيسية له، وهي الكلمة، بتحسينها وتثبيتها عن طريق الأعمال الأدبية. لن تنتج أي إنسانية بلا قراءة ولا مصاحبة للأدب إلا ما هو أشبه بمجتمع صم وبكم وناقص الفهم، وذلك لعلته اللغوية؛ وسيعاني من مشاكل هائلة في التواصل نظرًا للغته البدائية. وهذا يقع على مستوى الأفراد أيضًا، فالشخص الذي لا يقرأ، أو يقرأ قليلًا، أو يقرأ كتبًا سيئة، سيتكون لديه عائق مع الوقت: ستجده يتحدث كثيرًا ولكن المفهوم قليل، لأن مفرداته ضعيفة في التعبير عن الذات.
وهذا الأمر لا يعني وجود قيد لفظي فقط، ولكن أيضًا وجود قيد في الخيال والتفكير. هو فقر فكري لسبب بسيط، لأن الأفكار والتصورات التي يمكن من خلالها فهم حالاتنا لا يمكن لها التكون خارج اللغة. نحن نتعلم كيف نتحدث بعمق وبدقة وبمهارة من الأدب الجيد. لن يجدي أي انضباط آخر في أي فرع من فروع الفن ماعدا الأدب في صناعة اللغة التي نتواصل بها. أن نتحدث جيدًا، أن يكون تحت تصرفنا لغة ثرية ومنوعة، أن نجد التعبير الملائم لكل فكرة ولكل شعور نود أن نتواصل به، يعني بالضرورة أن نكون جاهزين للتفكير، وأن نعلِّم ونتعلم ونناقش، وأيضًا لأن نتخيل ونحلم ونشعر. بطريقة خفية، تردد الكلمات صداها في جميع أفعالنا، حتى تلك الأفعال التي لا يمكن أن نعبر عنها. وكلما تطورت اللغة – وذلك بفضل الأدب – ووصلت لمستويات عالية من الصقل والأخلاق، زادت من مقدرة الإنسان لعيش حياة أفضل.
عمل الأدب حتى على صبغ الحب والرغبة والجنس بصبغة الإبداع الفني. لم يكن الشبق ليوجد بدون الأدب. الحب والمتعة سيكونان أسوأ بحيث ينقصهما الرقة والروعة. سيفشلان في تحقيق الحالة القصوى التي يمنحها الأدب. لذلك فإني لا أبالغ حينما أقول أنّ الثنائي الذي يقرأ لغارثيلاسو، بترارك، جونجورا أو بودلير[3] يقدران المتعة ويعيشانها بخلاف الثنائي الذي صار أبلهًا بمشاهدة ما يسمى بـ«الأوبرا الصابونية[4]» في التلفاز. لن يتعدى الحب والرغبة في عالمٍ أمّي ما ترضى به الحيوانات، كما أنها لن تتجاوز الوفاء بالأساسي من الغرائز.
وبطبيعة الحال، لا يمكن لوسائل الإعلام السمعية والبصرية أن تعلم الناس كيف يستخدمون الإمكانيات الهائلة للغة بمهارة وثقة. على النقيض من ذلك، تعمل وسائل الإعلام على الحط من قدر الكلمة إلى منزلة أقل بجانب الصورة، والتي تعد اللغة البدائية لتلك الوسائط، وتعمل أيضًا على تقييد اللغة بالتعبير الشفوي إلى الحد الذي لا يمكن الاستغناء عنه بعيدًا عن البُعد الكتابي للغة. أن تصف فيلمًا أو برنامجًا تلفزيونيًا بالأدبي فهذه مجرد طريقة لبقة عوضًا عن وصفه بالممل. لهذا السبب، من النادر أن نرى العامة ينجذبون لمثل هذه البرامج. وحسب ما أعرف، فإن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو برنامج بيرنار بيفو[5] «فاصلة عليا» في فرنسا. وهذا يقودني إلى الاعتقاد بأن الأدب ليس فقط متطلَّبًا لمعرفة كاملة باللغة واستخدام أكمل لها، بل أن مصيرها مرتبط بشكل لا ينفصل بمصير الكتاب، ذلك المنتج الصناعي الذي يعتبره الكثيرون بأنه قد عفا عليه الزمن.
هذا الحديث يقودني إلى بيل جيتس، كان في مدريد منذ فترة ليست بالطويلة وزار الأكاديمية الملكية الإسبانية، والتي قد عقدت شراكة مع مايكروسوفت. ضمن أشياء أخرى، طمأن جيتس أعضاء الأكاديمية وأكد بأن الحرف «fl» لن يحذف من برامج الحاسب، كان ذلك الوعد يكفل لأربعمائة مليون متحدث بالإسبانية أن يتنفسوا الصعداء بما أن حذف حرف أساسي مثل هذا سيؤدي إلى مشاكل كبرى. على كل حال، بعد تنازله الودي للغة الإسبانية، أعلن جيتس قبل أن يغادر مقر الأكاديمية في مؤتمر صحفي أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق، ومن ثم للكتب.
يرى جيتس بأن الكتب أشياءٌ عفا عليها الزمن، وقال بأن شاشات الكمبيوتر قادرة على القيام بمهمات الورق الذي يستطيع عملها. أصر أيضًا أنه بالإضافة إلى كونها أقل مشقة من ناحية الاستعمال، فشاشات الكمبيوتر تأخذ مساحة أقل، وهي أسهل للتنقل، وأيضًا بأن نقل الأخبار والآداب إلى هذه الشاشات سيكون له فائدة بيئية لإيقاف تدمير الغابات، وأن صناعة الورق هي أحد أسباب التدمير. أكد أيضًا بأن الناس سيستمرون بالقراءة، لكن على شاشات الكمبيوتر، وبالتالي سيكون هناك المزيد من الكلوروفيل في البيئة.
لم أكن حاضرًا خلال خطاب جيتس، وعلمت بكل هذه التفاصيل عن طريق الصحافة. ولو كنت هناك، لأعلنت استهجاني لجيتس كونه قد أعلن بوقاحة نيته إرسالي أنا وزملائي الكتّاب إلى خط البطالة. ولكنت تنازعت معه بقوة بخصوص تحليله. هل تستطيع الشاشة حقًا استبدال الكتاب من جميع الجوانب؟ أنا لست متأكدًا. أنا واعٍ تمامًا للتطور الهائل الذي سببته التكنولوجيا الجديدة في مجال الاتصالات وتبادل المعلومات، وأعترف بأن الانترنت يؤدي لي مساعدة لا تقدر بثمن كل يوم في عملي؛ لكن امتناني لهذه الراحة لا يتضمن اعتقادًا بأنه يمكن للشاشات الإلكترونية أن تستبدل الورق، أو أن القراءة بالكمبيوتر يمكن أن تفي للقراءة الأدبية. هذه فجوة لا أستطيع تخطيها. لا أستطيع قبول فكرة أن تحقق القراءة غير الوظيفية، التي لا نبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع، توفر نفس تلك الأحلام ومتعة قراءة الكلمات مع نفس الإحساس بالحميمية، ومع نفس التركيز العقلي والعزلة الروحية التي يمنحها الكتاب.
ربما يصدر تحيزي هذا لكوني لم أمارس القراءة الالكترونية، وكوني تعاملت بعلاقة أدبية طويلة مع الكتب والورق. لكني على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الانترنت، لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرًا لجونجورا، أو رواية لخوان كارلوس أونيتي[6] أو مقال لأوكتافيو باث[7]، لأنني موقن بأن أثر تلك القراءة لن يكون مثل القراءة بالورق. أنا مقتنع، بالرغم من أني لا أستطيع إثبات ذلك، بأن مع اختفاء الورق سيعاني الأدب من ضربة مهولة، وربما مميتة. كلمة «أدب» لن تختفي بالطبع، لكنها ستدل على نصوص هي بعيدة عما نسميه أدبًا هذه الأيام، كبعد الأوبرا الصابونية عن مسرحيات سوفوكليس وشكسبير.
لا يزال هناك سببٌ آخر لمنح الأدب منزلته الهامة في حياة الأمم. بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية، من خسارة لا تُعوّض. هذا بسبب أن الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادة عن العالم الذي نعيشه. في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية.
لا يقول الأدب شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، لمن يرون الحياة بما يعيشونها الآن. الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملجأ لمن لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا في الحياة. يبحث الشخص منا عن ملاذه في الأدب حتى لا يكون هادئًا ومطمئنًا. أن تركب جنبًا إلى جنب مع ذلك السائس الهزيل وذلك الفارس المرتبك في حقول لامانشا، أن تبحر على ظهر حوت مع الكابتن آهاب، أن تشرب الزرنيخ مع إيما بوفاري، أن تتحول إلى حشرة مع غريغور سامسا، هذه كلها طرقٌ اخترعناها لنجرد أنفسنا من أخطاء وإملاءات هذه الحياة الظالمة، هذه الحياة التي تجبرنا دائمًا أن نكون الشخص نفسه، بينما نتمنى أن نكون مختلفين لكي نرضي رغباتنا التي تتملكنا.
يهدئ الأدب هذا الاستياء الحيوي للحظات، لكن في هذه اللحظات الخارقة، في هذا التعليق المؤقت للحياة، هذا التخييل الأدبي ينقلنا لخارج التاريخ، ونصبح مواطنين لأرض لا تنتمي للزمان، وبالتالي هي أرض خالدة. فنصبح أكثر حساسية، وثراء، وأكثر تعقيدًا وسعادة، وأكثر وضوحًا مما نحن عليه في حياتنا الرتيبة. عندما نغلق الكتاب ونتخلى عن الخيال الأدبي، نعود إلى وجودنا الفعلي ونقارنه بالأرض المذهلة التي غادرناها توًا. ويا للخيبة التي تنتظرنا! لكن هناك إدراكًا هائلًا ينتظرنا، وهي أن الحياة المتخيَّلة من الرواية أجمل وأكثر تنوعًا، أكثر فهمًا وأقرب للكمال من الحياة التي نعيشها ونحن واعون، تلك الحياة التي تحدها الظروف وضجر الواقع. بهذه الطريقة، نرى الأدب الجيد الحقيقي دائمًا كهدّام، كمتمرد ومقاوم، أي أنه تحدٍ لما هو موجود.
كيف لا يمكن أن نشعر بالخداع بعد قراءة «الحرب والسلام» أو «البحث عن الزمن المفقود» ونعود إلى عالمنا ذو التفاصيل التافهة، هذا العالم المليء بالحدود والموانع التي تقف بانتظارنا في كل مكان وفي كل خطوة لتفسد خيالنا؟ أكبر مساهمة للأدب في التقدم البشري فوق مهمته لاستمرارية الثقافة ولإثراء اللغة – دون قصد، وفي معظم الحالات – هي تذكيرنا بأن العالم جُعل سيئًا، وأن من يدعي العكس من الأقوياء والمحظوظين يكذب، وأن الكلمة يمكن أن تُطوَّر وتكون أقرب للعوالم التي يستطيع خيالنا ولغتنا تشييدها. يجب أن يحتوي المجتمع الحر والديمقراطي مواطنين واعين بالحاجة المستمرة للكلمات التي نعيشها ونحاول – بالرغم من أن المحاولة تكاد تكون مستحيلة – أن نجعلها تشبه العالم الذي نود أن نعيشه؛ وليس هناك من وسيلة أفضل من قراءة الأدب الجيد لإثارة عدم الرضا عما يوجد الآن، وتكوين مواطنين ناقدين ومستقلين عمن يحكمهم، ويمتلكون روحية دائمة وخيالًا نابضًا.
مع ذلك، أن يُسمى الأدب بالتحريض لأنه يحسس وعي المواطن لعيوب العالم لا يعني بالضرورة – كما يبدو أن الحكومات والكنائس تفكر، ولذلك أنشأت الرقابة – أن النصوص الأدبية ستثير اضطرابات اجتماعية أو تسرع نشوء ثورات. لا يمكن التنبؤ بالتأثير الاجتماعي والسياسي لقصيدة أو رواية أو مسرحية، لأنها لم تصنع بشكل جماعي من عدة خبراء. تصنع هذه الأعمال من قِبل أفراد وتُقرأ من قِبل أفراد ممن تختلف استنتاجاتهم بشكل كبير عندما يكتبون أو يقرأون. لذلك من الصعب، بل من المستحيل، أن تنتج أنماطًا وردود أفعال دقيقة في اتجاه واحد. فضلًا عن ذلك، قد تكون القيمة الجمالية لعمل أدبي ما سببًا في حدوث القليل من العواقب الاجتماعية. يبدو أن هناك رواية متواضعة لهارييت ستاو[8] قد لعبت دورًا حاسمًا في تنبيه الوعي السياسي والاجتماعي لفظاعات العبودية في الولايات المتحدة. إذًا، واقع ندرة تأثيرات الأدب لا يعني أنها ليست موجودة. ما يجب أن نعرفه هو أنها آثار صنعت من قِبل مواطنين تغيرت شخصياتهم جزئيًا بسبب الكتب.
فلنعد صياغة التاريخ بلعبة رائعة. ولنتخيل عالمًا بدون أدب، أي إنسانية لم تقرأ الشعر ولا الروايات. في هذا النوع من الحضارات الضامرة، بقواميسها الهزيلة التي تحفل بالآهات وإيماءات القرود على حساب الكلمات، من المؤكد أن بعض الصفات لن توجد. وتشمل تلك: حالم كيخوتي، مأساوي كافكاوي، سوداوي أورويلي، ساخر رابيلي، سادي، ماسوشي، وكلها ذات أصول أدبية. وللتأكد من ذلك، سيبقى لدينا مجانين، وضحايا جنون عظمة واضطهاد، وأشخاص بشهوة عادية وتجاوزات فاحشة، وأناس منحطين لدرجة الحيوانات يستمتعون بتلقي الألم وتسليطه. لكننا لن نستطيع أن نرى ما خلف هذه السلوكيات المتطرفة المحظورة من قبل قواعد المجتمعات، تلك الخصائص الأساسية في الإنسان، لم نكن لنرى السمات الخاصة بنا؛ لذلك نحن مدينون لمواهب ثيرفانتس، كافكا، أورويل، رابيليه، دو ساد، وماسوش[9] لأنهم استطاعوا كشفها لنا.
عندما ظهرت رواية «دون كيخوته دي لامانشا»، سخر قراءها الأوائل من هذا الحالم المتطرف كما سخرت منه بقية الشخصيات في تلك الرواية. اليوم، نحن نعرف أن إصرار ذلك الفارس ذو الوجه الحزين على رؤية عمالقة بينما كان هناك طواحين هواء، وعلى التصرف بطريقة تبدو سخيفة، هو الشكل الأعلى للكرم، وهو تعبير عن مظاهرة تجاه بؤس هذا العالم على أمل تغييره. تفوح مفاهيمنا عن المثالية والمثاليين بمعانٍ إيجابية ثانوية، ولن تكون هذه المعاني ما هي عليه، ولن تُحترم وتكون واضحة، لو لم تجسد في بطل الرواية بتلك القوة المقنعة لثيرفانتس العبقري[10]. يمكن أن يُقال نفس الشيء عن الأنثى الصغيرة الأقرب لكيخوته، إيما بوفاري، والتي قاتلت بحماس لتعيش الحياة الرائعة من الفخامة والشغف، والتي عرفتها وقرأت عنها من الروايات، كفراشة اقتربت كثيرًا من ضوء اللهب واحترقت بالنار.
فتحت تلك الإبداعات لكل أولئك الأدباء المبتكرين العظماء أعيننا على آفاقٍ مجهولة لحالاتنا البشرية، جعلتنا نستطيع اكتشاف وتفهم الهوة البشرية المشتركة. عندما نقول كلمة «بورخيسي»، فإن تلك الكلمة تستحضر فصل عقولنا عن منطق الواقع وتدخلنا إلى عالمٍ مذهل، إلى عقلية دقيقة وأنيقة وغامضة أشبه بالمتاهة، بكل تلك المراجع والإشارات الأدبية، والتي لا نشعر بالغرابة تجاه شخصياتها. لأننا نتعرف فيها على رغباتنا الخفية وحقائقنا الحميمة الخاصة بشخصياتنا، والذي أخذت شكلها بفضل الإبداع الأدبي للويس خوسيه بورخيس. عندما نذكر كلمة «كافكاوي» تتبادر إلى الذهن – كميكانيكية التركيز في الكاميرات القديمة – كل مرة شعرنا بها بأننا مهددون، كل مرة شعرنا بأنا أفراد لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا ضد كل أجهزة السلطة القمعية التي سببت الخراب للعالم الحديث، كل الأنظمة السلطوية، والأحزاب العمودية، والكنائس المتعصبة، والبيروقراطية الخانقة. لم نكن لنستطيع فهم الشعور بالعجز لدى الفرد المعزول والإحساس برعب الأقليات المضطهدة والتي تعاني التمييز من القوة الطاغية التي يمكنها سحقهم والقضاء عليهم من دون تلك القصص القصيرة والروايات لذلك اليهودي المعذَّب من براغ، الذي كتب بالألمانية وعاش دائمًا على اطلاع على ما حوله وما عليه.
صفة الأورويلي، وهي الصفة الأقرب للكافكاوي، تعطي تنبيها لتلك السخافة الرهيبة التي صُنعت من قِبل الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، تلك الديكتاتوريات الأكثر توحشًا وتعقيدًا في التاريخ، في تحكمهم بأفعال وأحاسيس المجتمع. في رواية 1984، وصف جورج أورويل في جو بارد موحش تلك الإنسانية المحكومة للأخ الأكبر، الحاكم المُطلق، والذي بواسطة مزيج مخيف من الرعب والتكنولوجيا، محق الحريات والمساواة والعفوية، وحول المجتمع إلى خلية نحل من البشر. في هذا العالم الكابوسي، تم تطويع اللغة لصالح السلطة، وحُولت إلى “خطاب جديد”، خالٍ من أي ابتكار وموضوعية، خطاب ممسوخ إلى سلسلة من التفاهات التي تضمن عبودية الفرد للنظام. صحيح أن نبوءة 1984 لم تمر حتى الآن، وأن الشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفيتي ذهبت مع الفاشية الشمولية في ألمانيا وأماكن أخرى، وبعد ذلك بوقتٍ قصير بدأت تتداعى في الصين، وفي كوبا وكوريا الشمالية اللتين تنتميان للماضي. لكن الخطر لم يُمْح بعد، وكلمة «أورويلي» ستبقى لتصف الخطر، ولتساعدنا على فهمه.
ويبقى أيضًا خيال الأدب واستعاراته أداة ثمينة لمعرفة أكثر الجوانب الواقعية المخفية في البشر. ولكن ما تعرضه الكتب الأدبية ليس ساحرًا على الدوام، بل ربما ما نرى أنفسنا فيه من خلال الروايات والقصائد ما هو إلا مرأى وحوش. يظهر ما أتحدث عنه حينما نرى التصوير الوحشي الفاحش فيما كتبه دو ساد، أو تلك الجروح الغائرة والتضحيات الفظيعة التي تملأ الكتب اللعينة لكلٍ من ماسوش وباتاي[11]. قد تصبح مثل هذه المشاهد مهينة ووحشية إلى درجةٍ لا تقاوم، ولكن الأسوأ فيها ليس الإهانة أو الدم المراق أو مجرد الحب الممزوج بالتعذيب، بل الأسوأ هو أن نكتشف أن ذلك العنف والإفراط ليس غريبًا عنا، بل هو جزء عميق في الإنسانية. تلك الوحوش التواقة للانتهاك والإثم تقبع في أكثر تلاقيف وجودنا خفية، وهي تسعى في الظل لكي تظهر متى ما سنحت الفرصة، وتفرض سيادة الرغبة الجامحة التي تدمر بدورها العقلانية والمجتمع وحتى ذاتها أيضًا. وبذلك، نتأكد بأنفسنا أن العلم لم يكن السبّاق إلى كشف مثل تلك الأماكن المظلمة في العقول، والتي تشكلها رغبة دفينة بتدمير النفس والجميع، وإنما الأدب الذي اكتشف ذلك وعرّاه لأول مرّة. أي عالم من دون أدب سيبقى أعمى عن هذه الأعماق الخطرة، والتي نحتاج أن نراها في أسرع وقت.
لن يكون هذا العالم من دون أدب سوى عالم غير حضاري، بربري يخلو من العاطفة، وذو خطاب جلف جاهل ومأساوي، ويعيش من دون شغف وجلف حتى في حبه. هذا الكابوس الذي أحذر منه وأرسم معالمه، سيكون سمته الأساسية الانسياق وتسليم عالمي لبني البشر إلى السلطة. بهذا المنطق، سيكون عالمًا حيوانيًا. ستحدد الغرائز الأساسية لدى الإنسان مشواره اليومي باتجاه سدّ الجوع والشقاء لكي يبقى، وستحدده بالخوف من المجهول وإشباع الحاجات المادية. لن يكون هناك مكان للروح في هذا العالم. وفوق ذلك، ستولد رتابة العيش المسحوق الإحباط وستلقي بظلال شريرة للتشاؤم، وسينمو شعور بأن الحياة البشرية ما كان لها أن توجد، وأنها ستكون هكذا دائمًا، وأن لا أحد يمكنه تغييرها.
عندما يتخيل الواحد منا هذا العالم، تقفز إلى ذهنه تلك المجتمعات الصغيرة التي يختلط فيها الدين بالشعوذة، والتي تعيش على هامش التطور في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأوقيانوسيا. لكن فشلًا مختلفًا يخطر في بالي. الكابوس الذي أحذركم منه لن يكون نتيجة قلة التطور، بل سيكون نتيجة التحديث والتطوير المفرط. نتيجة للتكنولوجيا وتبعيتنا لها، قد نتصور مجتمعًا في المستقبل وهو ممتلئ بالشاشات والسماعات، ومن دون كتب؛ أو في مجتمع يعتبر الكتب – وأقصد هنا الأعمال الأدبية – ما كانوا يعتبرون الخيمياء: ذلك الفضول القديم، والشيء الذي يُمارس في سراديب ومقابر حضارة الإعلام وسلطته من قِبل أقلية عُصابية ومضطربة. وأخشى أن هذا العالم المعرفي، على الرغم من ازدهاره وقوته، وهذا المعيار العالي من المعيشة والإنجاز العلمي، من شأنه أن يكون غير متحضر بعمق وسيكون خالي الروح. ستكون إنسانية آلية تركت حريتها بمجرد أن تخلت عن الأدب.
ليس من المرجح، بالطبع، أن هذه اليوتوبيا المروعة سوف تأتي. نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد، ما سيأتي لاحقًا مرهون برؤيتنا وبإرادتنا. ولكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم أي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق، يجب أن نقرأ.