( أنا ) الفصل الأول من رواية “أيام محبوبة”

د. رأفت الخولي | مص – أستاذ الصحة النفسية  

إسمى: مُحَرَّم عثمان يوسف أبو الليل, أبلغُ من العمر خمسة وأربعين عاماً, مُطلِّق ولى ولد وبنت من زوجة عاشرتُها خمس سنين وستة أشهر, ثم طلَّقتُها لقصر قامتها وطول لسان أبيها, كان أبوها واحداً من رجال الأوقاف, يغط فى النوم على قمم المنابر متخيلاً أنه يعظُ الناس ب: قال الله وقال الرسول, أما تصرفاتُه معى فلم تكن تمُتُّ لدين الإسلام بأى صِلة, ونتج عن ذلك أن ابنته قد استوتْ على ظهرى ودلدلتْ رجليها, وهو يدافع عن أخطائها لستَّة وستين شهراً سوداء. وكان الناس يُهنِّئون العريس فى صبيحة ليلة الدُخلة بقولهم:” وِش العريس يا مليح “, لكننى كنتُ شيئاً آخر؛ حين علا فى بيتى صراخٌ وعويل منذ ساعات الزواج الأولى, وكان ذلك من فِعل هذا الرجل المنحوس فى دنياه وأُخراه, والذى دفع ابنته أن تصُبَّ الخراء فوق رأسى منذ لحظة دخولها من الباب الخشب, وأحمد الله أنَّ المسافة من البوابة الحديد حتى مدخل الشقة ظلَّتْ نظيفة, فاحتميتُ بها طيلة عِشْرتِها الزِفت.

اشتغلتُ طبيب نساء وولادة فى بداية حياتى العملية, ثم اتجهتُ لدراسة طِب النفس بعد أزمة اختلقَتها معى إحدى المريضات حين اتهمتنى بالتحرُّش وأنا أوقِّع الكشف عليها… أمَّا أبى الذى ينحدر من نسلٍ طيب, فقد وصلتْ سذاجته فى أمر زواجى إلى حد العَبَط, حين زوِّجنى خوفاً علىَّ من فتنة النساء اللَّائى أكشفُ عليهنَّ فى سرير نومى قبل أن تكون لى عيادة مُجهَّزة بالشزلونج, فاختار تلك الأنثى التى أفسدتْ عليَّ الدنيا حتى كرهتُ الزواج من أجلها… وكان جَدِّى يوسف أبو الليل؛ صاحبُ العِمامة اللِّباد الملفوفة بالشال الكِتَّان, مُهادِناً بشوشاً طيِّب القلب, يسكُتُ حين تُذكِّره جدَّتى بأنَّه لم يكُنْ يستحِّقها, وحين تُعيِّره بملكيتها الكبيرة التى بلغتْ ستة وثلاثين قيراطاً ولم يرث هو سوى قراريط ثلاثة يتيمة, يبتسمُ وهو يضمُّها فى حضنه بعد بلوغها سن السبعين ويقول:”إنتى الخير والبركة يا نفيسة”. أمَّا جدى لوالدتى فهو الشيخ محمود العِزَّتلى؛ الفلَّاح البسيط المطحون, الذى تعلَّم حلاقة الرؤوس واللِّحى حين لم يعُدْ نِتاج الأرض كافياً للمعيشة, فكانتْ “المِسانيَّة” القادمة من أهل البلدة والبلاد المجاورة, تملأ الدار بكيزان الذرة وحِزَم النعناع ومقاطف القمح والحِلبة, بقدرٍ يُغطِّى مئونة السنة كُلِّها, وأبوه الشيخ العِزَّتلى, صاحبُ الجُبَّة الرمادية والعمامة الحمراء بالزِر الأسود, كان من رجال الأزهر الكبار, نافس الشيخ النواوى على المشيخة فى القرن قبل الماضى, فكسبها النواوى لأنَّه علَّم أولاده فى الأزهر, فى الوقت الذى اكتفى فيه العِزَّتلى, بإيقاف جَدِّى محمود عند نهاية التعليم الإلزامى, واستبقائة لفلاحة الأرض, ومتابعة العمل فى مدرسة العِزَّتلى لتحفيظ القرآن وتعليم الحساب, وماتَ العِزَّتلى قبل صدور قانون المعاشات فلم يترك أبيض ولا أسود, سوى رجالٍ مُسنِّين يحملون كتاب الله بين جوانحهم, ويُعلِّمونه لأجيال كثُرتْ, حتى انتَشَرَتْ الرواتب المضيئة فى بيوتٍ عَجَّت بالخير والذِكر الحكيم.

    التحقتُ بالطِب فى جامعة عين شمس, وفى السنة الأولى, اكتشفتُ أنَّ مكتب التنسيق قد غشَّنى, حين تأمَّلتُ كارنيه المكتبة, فوجدتُ خاتمها المطبوع على ظهره, مكتوباً عليه “كلية طِب العباسية”. جامعة فؤاد الأول. وخمَّنتُ أنَّها كانت هكذا ثم ضموها لجامعة عين شمس بعد انشائها, لكنَّنى لم أغفرْ للمكتب الموقَّر, أنَّه ألقى بى بين هؤلاء الأفذاذ من أبناء روكسى ومصر الجديدة, حين كانوا ينطقون الإنجليزية بلكنةٍ غريبة غير التى تعلَّمتُها, واكتشفتُ تأخُّرى عنهم لمَّا كنتُ أنطق بعض الكلمات فيتندرون عليَّ, وقرَّرتُ بعد السنة الثالثة أن أنقل أوراقى إلى طِب بنها بعد افتتاحها, وكانتْ فرعاً من جامعة الزقازيق, واسترحتُ من وجوه المتأفِّفين والمتأفِّفات, حين كان زملائى فى بنها ينطقون الإنجليزية مثلى, بالعربية الفُصحى.

    لسنواتٍ طويلة ظللتُ أنتظر الذى لا يجيئ, وكأنَّ صوت الفجر يؤنِّبنى بحدَّة النور الساقط من شباكى الصغير, حين هجرتُ الصلاة ليس عن تعمد وإنكار, ولكنْ لأنَّ هموم الحياة الطافحة شغلتنى من “ساسى إلى راسى”, واستغربتْ أُمى لكثرة إغلاقى باب الحجرة على نفسي, فنبَّهتنى لأيامٍ تتساقط ككُرات الثلج من غيمة شتوية, وحين غرقتُ فى النوم فى قيلولة يومٍ من نصف يوليو الثانى, أحسستُ بيد حانية تمسح وجهى وتقرصُنى بحنان فى حلمة أذنى اليسرى فأفقتُ شارداً, وصار عرقى غزيراً كالمطر الجامح حين رأيتُنى فى المنام أجرى فى شوارع البلدة بين زحامٍ من بشرٍ لا أعرفُهم, وعند وصولى لشاطئ النهر الصغير رأيتُ أبى, فسألتُه عن تلك الأضواء البنفسجية بلون قوس قُزح التى أراها فى صفحة السماء, وعن وجه النهر المنشور إلى جوارها فلم يرُدْ. عدتُ أدراجى إلى باب الدار أغوص فى لُجَّة متداخلة من الناس فوجدتُه قد سبقنى, وعند الباب الكبير أجابنى عن السؤال فقال إنَّ القيامة قد قامتْ, وعلىَّ أن أُصلىَّ قبل فوات الأوان, فتوضأتُ سريعاً ودخلتُ المندرة الكبيرة, وهلَّلتُ بصوتٍ سَمِعَه كلُّ مَن حولى, مُنادياً “حى على الصلاة”, وحال صُراخى بالأذان, استيقظتُ مُتعرِّقاً على يد أمى, ووقتَها ضمَّتنى لصدرها ونهتنى عن حَكىِّ الرؤيا لأحد, ومن يومها لم يفُتْنى فرض ولا سُنَّة, فتعزَّيتُ عن آلامى بها وتفرَّغتُ لتربية الولد والبنت, بعد أن لمستُ أنَّ الحياة لا تتوقَّفُ عند امرأة بعينها, بقدر ما تتوقَّفُ عند قدمى أُم. ثم ذبُلت وردة أُمى مع الزمن لكنَّ رائحتَها مازالت تملؤها, فرأيتُها اليوم ضامرة, ترقدُ فى السرير مكَّورة وقد اقتربتْ ركبتاها من ذقنها, وتتوه فى أسمائنا فتنادى أحدَنا باسم الآخر, لكنَّها تُرتِّل كتاب الله حرفاً حرفاً من دون خطأ, وحين أُغلِق المذياع عند آية مُعينَّة, تُكمل وٍحدَها دون أن تنزعج.

    قبل أن ينبُتَ فى قلبى حبٌ جديد, دعوتُ الله أن يمنحنى طول البال على أى امرأة تقذفها الأيام فى طريقى, فالتقيتُ ذات مرة بفتاة يُشع وجهها بجمال فى الروح, له خصوصية عندى. لم تكُن بيضاء ولا خمرية, كانت بين بين, لكنَّ لسانَها الذى رأيتُه يقطر شهداً شدَّنى لدنيا الملائكة, وحين عهِدتُ نفسى كالدلو الممتلئ؛ ينكَبُّ فى حِجْر أى امرأة تبسُط شعاع الكلمة الحلوة على شفتيها, قرَّرتُ أن أتعلَّم التريُث, لكنَّه لم يُفلح مع هذا القلب العِنبىَّ المُسكَّر, فسقطتُ كالمرَّات السابقة بين قلبها وعينيها, وقبل أن أُفاتحَها بحُبى, لمحتُ خاتم الخِطبة الذهبىَّ يلمع فى يدها اليُمنى, فانصرفتُ دون كلام, وعُدْتُ إلى مخبئى بين المكتب والسرير, أحمل فى قلبى حُبَّاً لامرأة لا أعرفُها. ولمًّا سألنى رئيسي المباشر عن صمتى الطويل, سقطتْ من عينى دمعة ساخنة وطلبتُ نقلى إلى مكان آخر.

    تزيدُك الحياة فهماً لها كُلَّما عِشتَ, فإن خانتكَ وأخرجتْك منها مُبكراً, تموت وأنت جاهل بها, والصدق الساكن بامتنان فى داخلى يُرغمنى أن أتَّبعه, فيظلُّ يذكِّرنى بجهلى يوم وافقتُ أبى, وفرحتُ بزوجة عذَّبتنى, فتركتُ وردتى الغضَّة, تمضى فى طريقها إلى المدرسة بلباسها الأنيق المُميَّز؛ بلوزة حرير رمادية بلا ذراعين, يخرج منها قميص أبيض, على تنورة سوداء كالليل الصامت, وحذاء يطرقع على الأرض مثل صواريخ مولد النبى, والرأس المُغطى بالشعر الذهبى المجدول اللَّامع, تبزغ منها عينان بلون السماء بعد المطر, وينظر لىَ الفجر باستلطاف, وهى ترفعها باتجاه سكن الأطباء, فأحدِّث نفسى كالمجنون, وأنا أضع خيط السِلك كروم زيرو, على حامل الإبر وأتركه, فيصفعنى نائب النساء على قفاىَ حين يكتشف أنَّنى أُرتَّقُ العِجان بلا خيط, وأتوه بقية اليوم حتى تعود. وعند صعودها درجات السلم المؤدى للبيت, أكتشفُ أنَّنى أقفُ فى شباك الغرفة بلا سروال, وزملائى يطقطقون بالضحك, من خيبتى فى اختيار الزوجة, وسذاجتى مع محبوبتى الصغيرة, فأجرى إلى السرير, وأعتكفُ تحت ملاءة التيل حتى تخرج فى اليوم التالى.

   لستُ أدرى كم مضى من سنواتى, حتى رأيتُها فى الفستان الأبيض والتُلِّية المحاطة بالخرز المنقوع فى الكُحلى, تتأبَّط ذراعه وتحوطهما هالة من قرقعة خشنة, تُسقِطُ كلهيب النار على وجهى الأبله, سُحُباً من دخان كثيف ومتراكم, فدخلتُ فى الغيبوبة ونِمتُ حتى بان النور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى