لم يزعجني شيء
بقلم: سمير الجندي
نصف قرن مر. وبرغم أن أذواقنا مختلفة، وفي أذهاننا نسخا كاريكاتورية منوعة، واهتماما من نوع فريد… إلا أنني بعدما رميت مفتاح قفلي الأخير في نهر السين الباريسي منذ أكثر من عشرين سنة، ولم يأت أحد ليأخذني من عالمي الرملي… كنت تمنيت بأمنية بنفس الوقت الذي ألقيت بمفتاح القفل الذي علقته على شرفة النهر بين آلاف الأقفال المغلقة. الأقفال صامتة تماما وجميعها تنظر إلى النهر بعين واحدة… تلك هي باريس، وهكذا هم الباريسيون؛ يأخذون أحلامنا، ويطبقون عليها بألوان مجردة… فما معنى أن تكون عربيا؟ أو إفريقيا أو آسيويا أو أوروبيا؟ أهي الصدفة وحدها؟ أم لدوران الأرض حول الشمس تبرير منطقي وهبة من السماء؟! فهبات السماء واسعة… وحياتنا مغامرة في أغنية طائر ينظر نحو الكون بدهشة… أمنياتنا تغفو وتتراقص وتتبدل هيئآتها بشغف اللحظة، ثم ندعي أننا نرغب بامتلاك النذور والسعادة… فالسماء مزينة عند الفجر بألوان برتقالية وحمراء، وزهرة الأوركيدا تمتلك عشرات القرون الاستشعارية عندما تكون على ساق خضراء قرب نبع صاف على سفح جبل.
إننا ندرك أن العمر ينطلق.. والصباحات تمثل تلميعات فرح؛ في الصباح نمجد الأغنيات واللغة والصيت البراق… هل يكمن صدقنا المبالغ فيه مع ساعات الصباح؟ أم إننا نمتلك الرغبة في الحياة عندما نكذب أمام المذبح لننجو من سطوة السلطة المتخلفة؟ كما فعل “غاليليو” عندما أعلن توبته الزائفة وأنقذ رأسه من حبل المشنقة.. فهو لم يبرهن فكرته كي تنسى، إنما فعل ما فعله ليغير العالم، وليغسل العقول من ترسبات التخلف السوداء… ما تزال أحلامي قابعة في قعر النهر الباريسي… أحيانا أستحسن هذه الفكرة. إذ أن ذاكرتي وحلمي أضافا مشهدا براقا على مدينة الأنوار بعد أن عقدت السلطة المتخلفة أذرع الحضارة، وعنفوان الرجال والنساء والثورة.
ثمة سلطة تطارد الإبداع والأيغور وأطفال المدن الرومانسية العريقة، والمهمشين… تبقى أياديهم الأسرع في نزع السيوف من أغمادها لتتدحرج الرؤوس ببطء على الأرض المستوية… لكن الأرض تدور حول الشمس الشاسعة. وتقلب الحكايات… البراكين سلالات تنطق باسم البشرية، وتمثل حماسا ملهبا يميز بين السمين والغث ولا تفتقر إلى وسائل دعم أمميّ… البراكين مثل العقول ذات طبيعة فلسفية تطبق نماذجا أفلاطونية… ربما أنا الوحيد الذي لا يتملكني متاع أو صورة أو طفيلي عالق على جدار ورقة نقدية… أُمدّد ساقي أمام الباب الساكن.. بجانب رف خشبي ترتمي فوقه دواوين شعر جاهلي وأموي وعباسي ومملوكي والكثير من الشعر الأندلسي… لا يوجد بينها حدود ولا زعامة لا تفهم جملة مما فيها… فمن سيقرع بابي؟ ومن سيجمع أوراق الحكايات؟ ومن سيلملم الأحلام من قعر النهر؟ ومن سيرسلها إلى السماء؟ اللغة وحدها التي تملأ حياتي، فهي جديرة بالقيم، وغير متحيزة… فهي التي خلدت الشعراء… وأرقت مضاجع السفهاء… وزرعت الحنين الذي منحني الذرائع للسفر إلى نصف الكرة الشمالي… ولم يزعجني شيء، وعشت الحياة دقيقة بدقيقة.